أفكار وآراء

«رؤية عُمان 2040» وحالة الانتقال في السياسات العامة

في مراحل التحول الكبرى تحتاج الدول إلى الانتقال في حالة صنع السياسات العامة من نمط «السياسات التنظيمية» إلى أنماط مختلفة من السياسات العامة حسب القطاعات؛ فعلى مستوى السياسات الاجتماعية قد تفرض المرحلة انتقالًا نحو نمط (السياسات المتمحورة حول الأسرة)، وفي حالة الاقتصاد قد تتوجه الدولة إلى (سياسات التنافسية الصناعية)، وفي حالات الموارد البشرية قد تذهب إلى التركيز على سياسات (استبقاء واجتذاب المواهب المحلية والعالمية)، وفي حالات تجويد الخدمات الحكومية قد تحتاج إلى الانتقال إلى (الحكومة المتمحورة حول المتعاملين Customer-centric government). ما يحدد الحاجة إلى هذه الانتقالات هو ثلاثة موجهات أساسية: أولها الأهداف التي تسعى الأجندة الوطنية إلى تحقيقها – شريطة أن تكون تلك الأهداف مرتبة حسب أولوياتها، ولها أوزانها النسبية في ضرورات التحقق خلال المرحلة -، وثانيها مدى الحاجة إلى التركيز على قطاعات/ قضايا بعينها في إطار مرحلة التحول، وحشد وتعبئة الجهود المؤسسية والسياساتية والمجتمعية نحو الاهتمام بها وتحقيق مآربها، وثالثها تحقيق التنافسية بمفهومها الواسع والممتد؛ فكل الحكومات اليوم تسعى إلى أن تكون أفضل من يقدم الخدمات الاجتماعية لمواطنيها ويحقق الرفاه لشعوبها، وكلها تسعى إلى تكوين أفضل بيئات الأعمال لازدهار التجارة وجذب الاستثمار، كما أن جميعها تسعى إلى تعديد مصادر الدخل والاستفادة من كل مقومات الثروة لتحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي، إلا أن ما يجعل ذلك فعالاً بشكل حقيقي هو مدى القدرة على صنع سياسات عامة تتواكب مع المرحلة، وتنطلق من حيثيات الواقع، وتستشرف المستقبل، وتحقق التكاملية القطاعية والمؤسسية، وتستلهم من مثلى التجارب، وتنظر بعين دقيقة إلى (مصفوفة الانعكاسات والآثار) بمعنى كيف يؤثر تدخل معين في سياسة ما بشكل مقصود أو غير مقصود على كافة القطاعات/ المؤسسات/ والأطراف الفاعلة.

من مطالعات الأسبوع المنصرم في زيارة رسمية إلى بولندا إحدى السياسات التي أقرتها الحكومة في عام 2018م، والتي تقضي بالإغلاق الملزم للمحلات التجارية، والمتاجر الكبرى أيام الأحد لصالح أمرين: الأول إتاحة المجال للعاملين في هذه المتاجر؛ ليقضوا إجازة مع عائلاتهم خلال تلك الأيام بشكل قانوني ملزم، والأمر الآخر أن القرار يستثني أصحاب المتاجر الصغيرة، والمحلات التي يديرها صاحبها بشكل مباشر من الإغلاق، وترى الحكومة في ذلك دعمًا للمجتمع؛ والاقتصاد المحلي الصغير. ما يعنينا هنا ليس مدى مناسبة مثل هذه السياسات للتطبيق في دولة بعينها بقدر ما يعنينا أهمية النظر في الأبعاد، والآثار التكاملية التي يمكن أن نجنيها من تطبيق تلك السياسات؛ فبقدر ما كانت السياسات العامة تحقق منافع متعددة الأبعاد اتسمت تلك السياسات بالكفاءة، وسرَّعت تحقيق مستهدفات الأجندة الوطنية، وحققت التوازن المؤسسي والقطاعي، وفي مثال آخر على هذا النمط من السياسات ما أقرته الحكومة السويدية في 2017م تحت مسمى (The Swedish government’s tax reform program)، والذي استهدف تخفيض ضريبة القيمة المضافة على خدمات إصلاح المنتجات، والسلع من 25% إلى 12%، وكانت الفكرة من البرنامج هو تشجيع الأفراد على إصلاح السلع، والمنتجات بدلًا من استبدالها المباشر بأخرى جديدة، وتمكين أسواق ومحلات وورش الصيانة والإصلاح، وتعزيز دورها في الاقتصاد. وعند النظر في الآثار المتشابكة لمثل هذه السياسة فهي تحقق تغييرًا في أنماط ثقافة الاستهلاك لدى الأفراد؛ تمكينًا، ودعمًا لمكون اقتصادي مهم في السوق، وهي: تجارة الصيانة والإصلاح، وتقليلًا للنفايات، والبصمة الكربونية للأفراد، والانبعاثات بشكل عام، وازدهارًا في المهن، والمحلات القائمة على الحرفيين المهنيين، وبالتالي دفع قطاع واسع من الأفراد الذين يمتلكون حرفة، أو مهارة مهنية معينة في صيانة تلك السلع، والمنتجات إلى الاستثمار في ريادة الأعمال، وإنشاء مشروعاتهم الخاصة بضمان الطلب. ونعيد التأكيد أن مثل هذه السياسات قد تكون مناسبة في سياقها الوطني، والزمني، ووفق الحيثيات التي وضعت فيها. وما تركز عليه عدسة هذه المقالة هو الكيفية التي يمكن لنا من خلالها صنع ذات آثار متعددة تتناسب ومراحل الانتقال، وتعزز من كفاءة الأداء، وتحقق الأجندة الوطنية.

وفي هذا السياق فإن صنع مثل هذا النوع من السياسات يقتضي خمسة اعتبارات مهمة: أولًا: ضرورة توسيع نطاقات التشاركية المؤسسية والقطاعية والمجتمعية؛ فالآثار العكسية غير المقصودة من بعض السياسات هي نتاج لإهمال أطراف معينة، أو جهات نظر غير محسوبة، أو غير مدركة. ثانيًا: دمج مبادئ العلوم السلوكية، وفهم دوافع الأفراد الحقيقية في سياق معيشهم، واستهلاكهم، وتفاعلاتهم. ويعد ذلك ممارسةً مهمة أصبحت تشكل اليوم ركيزة السياسات الأكثر فاعلية. ثالثًا: ضرورة التوفيق بين الحوافز، والعواقب في موجهات السياسة العامة. ورابعًا: فإن المبدأ الأساس الذي تعلمناه في علم السياسات العامة هو أن أكثر السياسات العامة فاعلية هي تلك التي تدفع الأفراد، أو المؤسسات لفعلٍ ما، وتدعمهم، وتمكنهم لتحقيق ذلك الفعل الذي قد يكون في صيغة سلوك جديد، أو صيغة مشاركة، أو صيغة جهد مبذول لتحقيق أجندة وطنية معينة. الأهم هو دفع الأفراد والمؤسسات من حالة السكون والتلقي إلى حالة الفعل المؤثر والإيجابي، والمنعكس على تحقيق الأجندة الوطنية المقصودة. خامسًا: ضرورة تعزيز المعارف والعلوم والقدرات الوطنية المرتبطة بصنع السياسات العامة؛ فهي حقل يقوم على التجريب المستمر، والاختبار، والبحث، والتدقيق. وفي هذا الصدد فإننا نقترح مختبرًا وطنيًا للسياسات العامة تكون الغاية منه إيجاد كيان مؤسسي، ومده بالخبرات اللازمة للنظر، والتدقيق في بنية السياسات العامة، وعصف الأفكار اللازمة؛ لتطوير منظومتها، واختبار بعض السياسات في صيغة سياسات تجريبية Sandbox، وإيجاد منصات لتعميق وتوسيع المشاركة المجتمعية، والمؤسسية، والقطاعية في تطوير سياسات عامة تكاملية تناسب الانتقال المنشود، وتحقق آثار متعددة وذات كفاءة عالية، والمساعدة في تحسين منظومة التواصل لتلك السياسات، إضافة إلى التقييم المنهجي لآثارها، وكفاءة تنفيذها، والنظر في الدروس المستفادة منها، ومقارنتها معياريًا بالتجارب الدولية الناجحة.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع، والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان