خروج فلسطين من السجون الإسرائيلية
السبت / 18 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 20:49 - السبت 11 أكتوبر 2025 20:49
هل نستطيع القول إن هذا الابتهاج العارم بوقف إطلاق النار الإسرائيلي الأخير في غزة بشارة بالوقف النهائي للحرب المستعرة منذ عامين؟ أو أن خطة السلام الأمريكية هي نهاية للقضية الفلسطينية كما يصورها رعاتها؟ لكن المؤكد هو أن سعادة الناس في غزة واضحة في الصور التي تنشرها وسائل الإعلام، رغم توقف الضربات الإسرائيلية بعد يومين من إعلان ترامب قبول حماس، وفي آخر يوم قبل الهدنة أسقطت الهجمات الإسرائيلية سبعة عشر قتيلا، ولم تصل المساعدات بعد ولا المؤن ولا الضمانات، لكن يبدو أن مجرد توقف إطلاق النار والقتل العشوائي والخراب والدمار أحدث انفراجًا نفسيًا لدى الناس، والسؤال الآن والناس يعودون لبيوتهم ومنازلهم هو هل حان الالتفات للماضي أم ليس بعد؟ لأن هناك الكثير مما حدث في الماضي والذي لم تمهلنا الحرب للالتفات إليه، بل إن كل ما حدث في الواقع قد حدث في الماضي أساسًا، من الاحتلال للنكبة ولكل الحروب والانتفاضات وصولا إلى أحداث غزة الأخيرة. عادة لست من حزب التشاؤم على التفاؤل، كما لا أجد أن لي الحق بإفساد فرحة الناس في فلسطين وفي كل مكان آخر في العالم، والذين تعلقت قلوبهم تعلقا لا انفكاك له بهذه القضية خلال هذين العامين، بشكل أكبر مما حدث في العقود الماضية وهذا الثامن منها من عمر الاحتلال الإسرائيلي، ولعل هذا يدعو للتأمل الآن، خاصة والمفاوضات غير المباشرة بين وفدي حماس وإسرائيل ما تزال جارية في شرم الشيخ. خلال هذا الحدث تحديدًا ومنذ بدايته بدا لي أن التعلق البشري العام بأحداث فلسطين أصبح أكبر وأعمق، كان العرب في العقود التي عايشتها على الأقل يتأسفون كلما جاء الحديث عن الاحتلال الإسرائيلي، ورغم أن موقفهم كان ثابتًا مع فلسطين بشكل عام، وكان الناس عادة، خاصة في الطبقات الشعبية، يتخذون ردات فعل تتبع عمومًا النهج السياسي العام الذي يتخذه ساستهم تجاه القضية، حتى حدثت الاتفاقيات الإبراهيمية والتي فرضت واقعًا جديدًا، حيث أصبح الناس في نزاع بين ما يؤمنون به داخلهم، وبين ما يفرضه الواقع الجديد عليهم، وقد خلق هذا تمزقًا داخليًا، ولا شك أن له أثره النفسي والسياسي بالتالي، ولكن قوة القبضات الأمنية جعلت من هذا الخطر شبه بعيد، ورغم ذلك عرفنا وسمعنا ورأينا أن المقاطعة اخترقت كل تلك الحدود، وأكد الناس مقاطعتهم ورفضهم، خاصة مع استمرار المجازر والإبادة العنصرية، ولعل العامل المؤثر الأكبر هو أن العالم بأجمعه، والغرب نفسه، على المستويات الشعبية أولا ثم السياسية تاليًا، انتصر للمقاطعة، ولعدالة القضية الفلسطينية. الذي اختلف في الأمر، بنظري على الأقل، هو أن استراتيجيات المقاومة الجديدة التي تبنتها المقاومة الفكرية الفلسطينية باستخدام أدوات المقاومة المعاصرة استلهامًا لتجربة جنوب أفريقيا، والتي استهدفت العمق الفكري والثقافي الداعم لإسرائيل في الغرب، بدأت تؤتي نتاجها، خاصة مع انتشار التقنية ووجودها الملح في الأكف والجيوب عبر الهواتف النقالة، وهذا نمط معيشي جديد، فرض بدوره واقعًا مختلفًا في التعاطي، رغم أن تطبيقات التواصل الاجتماعي الأمريكية والشركات التي تقف وراءها كانت مؤيدة للقضية الفلسطينية، لكنها وجدت نفسها مهددة بمنافسة تطبيقات أخرى، خاصة التيك توك الصيني، بكل الضجة التي تثيرها محاولة الاستحواذ الأمريكية على التطبيق، وهكذا هرع عمالقة التقنية لإتاحة التعبير لمناصري القضية الفلسطينية، رغم أن التلاعب ومحاولة التوجيه والخوارزميات المشوشة لم تتوقف.
رغم ذلك رأينا وجوهًا ثقافية وفنية وسياسية مختلفة من كل دول العالم تقف وقفة ظاهرة ومعلنة مع الحق الفلسطيني، ولا تنطلي عليها التبريرات الإسرائيلية والنغمة المعتادة التي كانت إسرائيل وما تزال تصدرها للغرب، كالإرهاب مثًلا، ولا التضييقات والتهديدات السياسية كما حدث في أمريكا، بل بالعكس، فضح الإعلام الجديد بحقائقه المباشرة وأخباره الواقعية حجم التضليل الذي ظل يمارسه الإعلام التقليدي وقلاعه العتيدة، وهذه معركة جديدة ينتصر فيها الإعلام الجديد، حيث لم تعد السي ان ان، والفوكس نيوز، والبي بي سي، هي التي تقود الرأي العام، بل تحول الرأي العام لتبني حرية الرأي والتقييم الذاتي للوضع واتخاذ ردات فعل مناسبة، وما زالت إلى اليوم مثلا في بريطانيا ارتدادات قرار الحكومة تجريم حركة فلسطين الفعل Palestine Action، التي انتهجت لاحتجاجاتها إغلاق المصانع وتخريب المنشآت، ولكن مجرد وجودها تعبير عن انسداد أفق التغيير، وعن غياب الوسائل السلمية لذلك، سواء اختلفنا أو اتفقنا مع نهج التخريب كاحتجاج.
إن المهم في كل ما حدث إلى الآن وعلينا التأكيد عليه، والحرص على أن يكون هو التوجه المستقبلي فيما يخص القضية الفلسطينية، هو أن فلسطين تحولت، وولدت من جديد، في عصرنا هذا، وأصبحت قضية أخلاقية، تمس الإنسانية بأسرها، وهذا ما شكل كل الضغط السياسي الذي دفع كل النجاحات التي حققتها القضية الفلسطينية في هذا العام، من الاعتراف، إلى خطة السلام التي لم تتضح خطوطها النهائية بعد، ولكن القوة الحقيقية التي دفعت لإيقاف الحرب في نظرنا هي ثقل القضية الأخلاقية الفلسطينية على ضمير العالم، وعلى هذا الثقل يمكن التعويل لولادة الأمل، ذلك أن التطورات التي تشهدها القضية الفلسطينية اليوم هي نتيجة يقظة الضمير العالمية، من الشرق إلى الغرب، لما تمثله فلسطين من مركزية، ليس فقط في حدود الصراع العربي الإسرائيلي، بل في صراع أكبر وأشمل ضد الإمبريالية ونظام السوق والاستعمار الجديد، ففلسطين حركة مقاومة تثبت اليوم حقها ووجودها الفكري والعقلاني والمنطقي، وأنها ليست كما كانت إسرائيل والغرب تصورها من قبل كقضية نزاع تاريخي ديني عرقي قديم على قطعة جغرافية بعينها، بل هي قضية تحرر معاصرة من هيمنة الاستعمار القديم والجديد، صدَّر فيه الاستعمار القديم المشكلة اليهودية الأوروبية الغربية إلى فلسطين لتخلق بدورها المشكلة الفلسطينية الشرقية، ويقوم الاستعمار الجديد كوريث اليوم بدعم إسرائيل بكل قوته، ولكن الواقع الجديد اليوم هو أننا بدأنا نشهد تحولًا في السرد، لصالح السردية الفلسطينية بدل الاحتكار المطبق للسردية الغربية والإسرائيلية، وهذا الانزياح هو ما يشكل الأمل القادم لتحرر فلسطين، وهو ما كان أوصى به إدوارد سعيد من قبل.
لا يمكننا بالطبع أن ننفي نجاح حماس في الاحتفاظ بالأسرى الإسرائيليين طوال هذا الوقت، ووسط الخراب والجحيم الذي صنعته إسرائيل في غزة، رغم كل التكاليف الباهظة لذلك، وهو الذي يجعل حماس في موقع التفاوض اليوم مع إسرائيل بالرعاية الأمريكية وإن كان عبر وسطاء، رغم أن علينا ألا ننخدع بالهدوء النسبي، فما زال نتنياهو يلوٍّح ويتحدث نهاية الأسبوع الماضي عن السيف الذي على رقبة حماس، في استعاراته القديمة المستهلكة، لكنه يعلم أنه يتحدث والجيش الإسرائيلي ما زال في غزة، فرغم كل جهود المقاومة وحرب العصابات الشجاعة التي انتهجتها حماس والفصائل الفلسطينية المسلحة لمقاومة الاجتياح إلا أنها لم تشكل قلقًا كبيرًا لإسرائيل أو لحكومتها، اعتمادًا على تفوقها العسكري الكاسح، واعتبرت الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي مجرد خسائر متوقعة، ولم تشكل ضغطًا كافيًا لتوقف الحرب، مع أن اللافت في هذا الصدد هو ظاهرة رفض الاستدعاءات للخدمة العسكرية التي انتشرت في صفوف الإسرائيليين وكتب عنها كثيرون منهم في الصحف العالمية. الخلاصة الآن هي أن هناك واقعًا فلسطينيًا جديدًا يتشكل من كل ذلك، وهو يتشكل الآن، وله أكثر من مظهر متحقق، خاصة تحت الأضواء، في الأفلام العالمية التي بدأت تتحدث عن فلسطين وتاريخها، أو الأفلام الوثائقية التي فازت بجوائز عالمية، وكل ذلك مؤشر لنجاح القضية الفلسطينية في تحولها لقضية إنسانية شاملة وملحة وراهنة تخاطب العالم بأسره، وتحررها بالتالي من الظل والسجن الذي حرصت إسرائيل طوال تاريخها على طمرها ودفنها فيه بالقوة، وفلسطين اليوم تنبعث من رمادها ومن خرابها طائر عنقاء مشتعلة بالتوق للحرية وهي تسعى إليها بكل قواها سعيًا حثيثًا لا هوادة فيه.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني