ثقافة

«كامل كيلاني» وتيسير التراث القصصي

 

إيهاب الملاح -

(1)

مثَّل جهد الراحل الكبير كامل كيلاني (1897-1959) الملقب بـ «رائد أدب الطفل» القاعدة التأسيسية العريضة للكتابة الموجهة للأطفال، وتيسير التراث القصصي (العربي والعالمي) للمرحلة العمرية (10-18 عامًا) خلال النصف الأول من القرن العشرين. تربع كامل كيلاني على عرش هذه الكتابة لعقود طويلة رغم رحيله عن 63 عاما فقط، وظل متربعا على هذا العرش حتى بعد رحيله. ومثَّلت أعماله التي جاوزت مائتي قصة ذخيرة لا غنى عنها للأطفال والناشئة واليافعين في مصر والعالم العربي كله.

وقد بلغ من حجم التأثير الكبير لأعمال كامل كيلاني وانتشارها الواسع أنه تقريبًا لم يخلُ بيت من قصة أو أكثر من قصصه التي كتبها للأطفال؛ سواء تلك التي ألفها خالصة، أو التي استلهم فيها التراث القصصي الإنساني، أو التي أعاد صياغتها لتناسب تلك المرحلة العمرية التي يتوجه إليها، (أو توجه إليها في خطابه القصصي للأطفال).

أنا شخصيًّا ما زلت أحتفظ بمجموعات قصصه الرائعة المسلسلة التي استلهم فيها قصص «ألف ليلة وليلة»، و«رحلات السندباد البحري»، و«رحلات جاليفر»، و«روبنسون كروزو»، وغيرها كثير. وقد أعادت دار المعارف في السنوات الأخيرة طباعة ونشر أعماله الكاملة ومجموعات قصصه المستوحاة من التراث العالمي والعربي بمناسبة اختياره الشخصية المحتفى بها في مجال أدب الطفل في معرض القاهرة الدولي للكتاب قبل سنتين أو ثلاث سنوات. والمدهش أنه رغم مرور ما يزيد على خمسة وستين عاما على رحيل كيلاني؛ فإن كتبه وأعماله ما زالت تحظى حتى وقتنا هذا بالاحترام والقبول، وما زالت تطلب في المكتبات، ويقبل عليها الآباء لتوفيرها لأبنائهم في المراحل العمرية والدراسية المتنوعة. (2)

تجمع كتب التاريخ الأدبي الحديث والمعاصر أن كامل كيلاني كان من أوائل الذين كتبوا قصصا موجهة للطفل في الأدب العربي الحديث. وله إنتاج غزير جدا ومتميز في هذا المجال. وكتاباته تحفل بمهارات رفيعة في القص والصياغة فضلًا عن جودة الموضوعات. وقد نشر أولى قصصه وهو دون العشرين، ثم نشر بعض المقالات النقدية (1920)، لكنه ما لبث أن نفض يده تمامًا من النقد والدراسة الأدبية المتخصصة، وتفرغ تمامًا لكتابة أدب الأطفال، فكتب عددا ضخمًا من القصص نشر منها في حياته مائتي قصة فقط، ونشر ابنه رشاد كيلاني بعد وفاته أكثر من خمسين قصة، وصدرت أولى قصصه (1917) في جريدة «النسر المصري».

ومن أهم ما كتب للأطفال: «مجموعة قصص فكاهية» ثماني رسائل، و«مجموعة قصص من ألف ليلة وليلة» اثنتا عشرة رسالة، و«مجموعة قصص هندية» سبع رسائل، و«مجموعة قصص من شكسبير» أربع رسائل، و«مجموعة قصص من أساطير العالم» ست رسائل، و«مجموعة قصص علمية» عشر رسائل. بالإضافة إلى تعريف الطفل العربي بالقصص الخيالية الفلسفية من أدب المشرق والمغرب، كقصص حي بن يقظان وروبنسون كروزو.

في عام 1920 أنشأ مكتبة كيلاني التي اهتمت بنشر مؤلفات مهمة في مجالات التاريخ والأدب والنقد، وإن كان نشاطها الأساسي والأوسع شهرة وانتشارا هو كتب الطفل وأدب الطفل، وبالجملة كل أشكال الكتابة الموجهة للأطفال والناشئة واليافعين ما دفع النقاد إلى إطلاق لقب «رائد أدب الطفل» على كامل كيلاني. وكان من آثار قبول وانتشار هذه الأعمال التي قدمها للمكتبة العربية أن ترجمت قصصه إلى عديدٍ من اللغات، منها: الصينية، والروسية، والإسبانية، والإنجليزية، والفرنسية وغيرها.

(3)

تميز كيلاني حقيقة بالقدرة على بعث واستلهام أبرز شخصيات التراث القصصي والأدب العالمي والعربي، وإعادة موضعتها من جديد في قصصه وحكاياته التي أعادت اكتشاف شخصيات؛ مثل:

جحا، وعلي بابا، وأبو قير وأبو صير، وعبد الله البحري وعبد الله البري، وغيرهم من التراث القصصي العربي.

ومن التراث العالمي والإنساني قدم كامل كيلاني للأطفال واليافعين من أبناء العربية المجموعة الميسرة من أعمال شكسبير رائد المسرح الإنجليزي وسيده الأول بلا منازع (تاجر البندقية، ويوليوس قيصر، والملك لير، والعاصفة). وقدم كذلك مجموعة «رحلات جليفر»، ورواية «روبنسون كروزو».

كان يرى أن حوار قصص الأطفال يجب أن يكون بالفصحى العالية المضبوطة بالشكل. كما كان حريصًا على تدعيم الحس الأخلاقي في كتابته للأطفال. وقد استلهم مادة العديد من قصصه من الأساطير القديمة، وتراث الأدب العالمي، والأدب الشعبي.

وكانت هذه الأعمال الميسرة والمَصوغة بعناية شديدة وبعربية رائقة لروائع الأدب العالمي وعيونه في المسرح والرواية والقصة هي البداية الحقيقية التي أخذت بيد كثيرين إلى التعرف على الآداب العالمية والتعلق بها، ومنهم من أكمل طريق الاحتراف، فأصبح من كبار الدارسين لهذه الآداب أو المترجمين عنها.

كانت لديه القدرة على بث الحياة والنبض والحركة في هذه الشخصية أو تلك بما يناسب أبناء زمانه، ويرتقي بذائقتهم ويشعل خيالهم، ويجذبهم بنعومة ويسر إلى عالم القراءة المذهل، والانفتاح على كنوز التراث القصصي العربي والعالمي والإنساني، وساهم مساهمة كبيرة جدا في تعريف أجيال وأجيال وأجيال بتراثات الأمم أصحاب الثقافات العريقة والحضارات الأقدم مثل الحضارة المصرية القديمة، والحضارة اليونانية والحضارة الفارسية والحضارة الصينية والحضارة الآشورية والبابلية إلخ.

(4)

وقد اطلعت على العديد من الشهادات ومقاطع من كتب السيرة والمذكرات لكثيرين من أعلام الفكر والأدب والثقافة في مصر والعالم العربي ممن تأثروا أشد التأثر وأعمقه بكتب كامل كيلاني في مرحلة الطفولة والنشأة «لقد كان لهذه الكتب بأسلوبها العربي البليغ، وجملها الواضحة التي حملت كلماتها علامات التشكيل والضبط أكبر الأثر في تيسير قراءتها قراءة سليمة وارتباطي باللغة العربية في سن مبكرة» بحسب شهادة مترجم قدير وأستاذ جليل من أساتذة الأدب واللغة الإنجليزية بالجامعات المصرية والعربية.

شهادة أخرى ثمينة للغاية، ودالة على اتساع التجربة الكيلانية (إن جازت النسبة والتعبير!) وعمق تأثيرها في أجيال مختلفة ومتنوعة شهادة المهندس خالد مندور ابن الناقد الكبير الدكتور محمد مندور الملقب بشيخ النقاد، يقول:

«هل تعلمون ما هو أخطر قرار اتخذه أبي بشأني وأنا بعد طفل صغير؟ إنه قرار يبدو صغيرًا، ولكنه كان خطيرا جدا بالنسبة لي. هذا القرار البسيط هو قيامنا بزيارة لمكتب كامل كيلاني «شخصيا». مجرد زيارة قصيرة لهذا المبدع الكبير والرائد في أدب الأطفال. زيارة فتحت باب السحر والخيال حين لاطفنا الكبير القصير القامة واللطيف جدا والذي بدا كما لو كان شارلي شابلن في خيال الطفلين الصغيرين خالد وطارق «الشقيقين»، وخرجنا من الزيارة بمفتاح السحر والخيال بمجموعة كبيرة من قصصه للأطفال».

ويتابع خالد مندور وصف هذه الزيارة والأثر الذي تركته في نفسه وروحه وحياته كلها:

«لقد انشق القمر، ودخلت إلى العالم المسحور ليس فقط عالم كامل كيلاني البديع، بل أيضًا لمكتبة أبي وأمي نفسها مكتبة الكبار؛ مكتبة متنوعة في مجالات المعرفة كافة بما فيها المجلات الطبية، فأتجول داخلها واختار منها والشكوك تنتابني. هل أستطيع أن أفهم هذا الكتاب؟ فأحمل الكتاب، وأذهب إلى أمي لأسألها، فتكون الإجابة: «اقرأ»، وإذا لم تفهم ضع الكتاب مكانه، واختر كتابًا آخر.. ولكن بعد عام أو اثنين عاود محاولة قراءة الكتاب الذي جذب انتباهك وستفهمه. درس بليغ لا أنساه. دين عظيم يطوق عنقي لكامل كيلاني ولقرار أبي بزيارته ولحكمة أمي التي ساهمت في قيادتي لأطوف داخل السحر والخيال».  (5)

وما زالت كتب كامل كيلاني للأطفال كنزًا جديرًا بالدراسة والتأمل والاهتمام. وقد أخبرني الصديق والأستاذ الناقد والمترجم القدير الدكتور مصطفى رياض أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الألسن جامعة عين شمس بأنه أشرف على رسالة ماجستير أعدتها الباحثة سارة سيف المدرسة بقسم اللغة الإنجليزية وآدابها، كلية الآداب، جامعة عين شمس، وخصصتها لعقد دراسة مقارنة بين حكايات شكسبير لتشارلز وماري لام، وقصص كامل كيلاني الشكسبيرية، أو مجموعته التي أسماها (قصص من شكسبير). 

إيهاب الملاح كاتب وناقد مصري