أفكار وآراء

نحو تخطيطٍ يُنصف الهوية ويستثمر السياحة

ندى بنت صالح الشكيلية

في كل زمن تُعيد المدن تعريف نفسها، بعضها بمبادئ ثابتة لهويتها، وبعضها بالتجرّد منها، ورغم تبدّل ملامح كثير منها، واغتسالها بطلاء الحداثة لتبدو أكثر بريقا وأوسع أفقا، يظل سؤال الهوية حاضرا، يسألنا بصوت شجي: هل ما زالت هذه المدن تُشبهنا؟

ومع هذا السؤال الذي يلاحق المدن في كل مكان، أجد أن شهر «أكتوبر العمران» قد أطلّ علينا في عُمان حاملا آفاق التفكير في مدننا واستدامتها ومستقبل عمرانها. ولعله يكون فرصة للالتفات إلى المخاطر كافة، لا إلى مخاطر الكوارث الطبيعية أو تحديات البنى الحضرية واستدامة المدن فحسب بل إلى مخاطر تأثّر الهوية، لا سيما في مسقط القديمة، القلب النابض بالتفرد المعماري والثقافي، هنا حيث يتجدّد التساؤل حول الكيفية التي نحافظ بها على الملامح ونحن نمضي نحو المستقبل وكيف يمكن للتنمية أن تتسارع دون أن تفقد المدينة ملامحها التي صنعتها الذاكرة.

فرغم أننا ندرك بأن التمدّن ليس خصما للهوية، ولا البناء نقيضا للذاكرة، لكن حين نُسرع الخطى دون أن نلتفت لما ورائنا، قد نفقد الطريق إلى أنفسنا، وإلى عواصمنا الوجدانية وعلى رأسها «مسقط»، حيث تحمل مسقط إرثًا معماريا وتاريخيا لا يُقدّر بثمن، إرثا يروي فصولا من التجارة والسياسة والتعليم والدبلوماسية، لا يمكن أن يُختزل في صور أرشيفية أو لوحات متحفية، فكل بيوت «الدلاليل» و«ميابين» و«بيت فرنسا» و«بيت مزنة» وبيوت المشربيات تحكي قصصا لا تُدوّنها الوثائق، بل تخبئها جدرانها وجدانيا، فهذه المباني ليست جماليات معمارية فحسب، بل حاضنات لذاكرة جماعية، وأدلة حية على فصول من التاريخ العماني، نعم هنا في مسقط، حيث تتكئ الجبال على البحر، وحيث مرّت القوافل والأساطيل وصاغت الأيامُ تاريخا من الحكمة والعزّة، يتكشّف لنا اليوم مشهدٌ جديد، لكنه لا يُشبه الأمس كثيرًا.

فمن المحزن أن نقف نتأمل كل يوم الأبنية الصمّاء التي حلت محل البيوت القديمة وهي تتعالى على امتداد الشريان البحري لمسقط، من حي الورد مرورا بميابين ووصولا إلى سداب وتأتي بقية الحارات متتابعة تطغى فيها الأبنية الحديثة على المشهد وتُقصي البيوت العمانية القديمة التي كانت تسكنها الروح العمانية، بيوتٌ بمشربياتها الخشبية، بزواياها التي تحفظ ذاكرة شروق الشمس على مسقط، بألوانها التي تهدئ العين، وبصمتها الذي كان يروي الكثير، أين ذهبت؟ ولماذا طمست؟ وكيف تستبدل بجدرانٍ عالية باردة، متجردة من هويتها وتفردها؟

فهذا المشهد، وإن بدا للوهلة الأولى جزءًا من حركة التمدّن الطبيعية، إلا أنه يكشف عند التأمل عن خطرٍ أعمق يمسّ جوهر المدينة، فبعين تتفحّص المشهد، وبفكر يستبق النتائج، يتبدّى أن ما يحدث اليوم في مسقط القديمة ليس مجرد تمدّن، بل محو تدريجي لهويةٍ معمارية وثقافية تُشكّل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية لعُماننا العزيزة.

ولعل من اعتاد أن يستنشق فجرًا هواء مسقط القديمة، ويأنس بالمسير بين «حي الورد» و«بوابة مسقط» وصولًا إلى ظلال بيوتها العتيقة، يدرك أن المكان يفقد الكثير من روحه.

ولعل لا فائدة من الأسى والحسرة على ما لا يعود، ولكن يبقى الرجاء بأن نعيد النظر في معنى التنمية من جميع جوانبها، خاصة وأن توجهات عماننا تدرك بأن الحداثة ليست نقيض الأصالة، والمستقبل لا يُبنى على أنقاض الذاكرة، بل على جذورها، وقد أثبتت تجارب كثيرة أن الحفاظ على الهوية المعمارية يعتبر رافدا اقتصاديا وسياحيا، وفرصة تنموية حقيقية.

ففي المغرب مثلاً، نجد أن المدن العتيقة كفاس ومراكش وتطوان تعيش في قلب الحاضر وليس في هوامشه، حيث تُنظم المهرجانات في أزقتها، وتُستقبل الوفود في رياضها، وتتحول منازلها التاريخية إلى نُزُلٍ تزدهر بالحياة، وقد أصبحت هذه المدن نماذج يُحتذى بها في الجمع بين صون التراث والاستفادة منه، وفي إسبانيا، تمثل غرناطة وقرطبة وبرشلونة تجارب ملهمة حيث حي «باريو غوتيكو» ببيوته القوطية الضاربة في القدم ما زال مركزًا نابضًا بالحياة، يُدرّ دخلاً سياحيًّا ضخمًا ويُروّج لصورة المدينة عالميًّا دون أن يتخلى عن هويته، وكذلك في إيطاليا واليونان وتركيا، تجد أن الماضي ليس عبئًا بل كنزٌ يُستثمر ويُحيا.

وليس بعيدًا عنا، في ربوع عُماننا، رأينا ولايات أعيدت الحياة لبيوتها القديمة فجعلت منها وجهات سياحية واقتصادية ناجحة، كتلك التي في نزوى وغيرها حيث أحيت الذاكرة في جدران بيوتٍ أُعيد ترميمها بعناية واستُثمرت بذكاء، فتحولت إلى مواقع جذب سياحية ونُزُل تراثية، فهذه التجارب تثبت أن التوازن ممكن، وأن الاعتزاز بالهوية لا يُناقض التطور، بل يُثريه.

ولأن الهوية تجربة معيشة متكاملة، فإن الحفاظ عليها يعزّز الجذب السياحي بشكل مباشر، فالسائح لا يبحث عن التكرار إنما عن التفرد، فهو يريد أن يرى ما يُعبّر عن المكان ويكشف ثقافته وروحه، ومسقط، بما تحمله من تاريخٍ وخصوصية معمارية وموقعٍ بين الجبل والبحر، تمتلك كل عناصر هذا التفرد، وتصلح أن تكون وجهةً للاسترخاء والاستجمام بين ماضيها العريق وحاضرها المتجدّد، إذا ما حافظت على ملامحها الأصيلة واحتضنتها برؤية متزنة، ويبقى الأمر في مسقط بحاجة إلى التوقف والتأمل، لا سيما في كونها القلب السياسي والثقافي لعُمان، ولا ينبغي أن تكون خارج هذا الحراك الواعي.

إضافة إلى أن رؤية عُمان 2040 حين وضعت «مجتمعًا معتزًا بهويته» أحد محاورها الرئيسية، فإنما عبّرت عن وعيٍ عميق بأن الهوية هي ركيزة لبناء المستقبل.

ندى بنت صالح الشكيلية كاتبة عمانية