نساء غزة بعد عامين من الحرب: أمومة تحت النار وصمود يولد الحياة
الأربعاء / 15 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 18:22 - الأربعاء 8 أكتوبر 2025 18:22
عامان مرا على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ولا تزال المدينة المحاصَرة تتنفس رمادها وتحصي أسماء الغائبين في كل بيت وركن وذاكرة. حربٌ غيرت ملامح المكان والإنسان، وأسقطت أكثر من 67 ألف شهيد، منهم 70% من الأطفال والنساء، تاركةً خلفها شعبًا يواجه المجاعة والدمار والعزلة، في ظل صمتٍ عالميٍّ مريبٍ وموتٍ متكررٍ في تفاصيل الحياة اليومية.
في غرفة ولادة صغيرة داخل مركز طبي متهالك، يتقاطع بكاء المواليد مع دويّ الانفجارات، فتتداخل أصوات الحياة والموت في أذن القابلة أماني عواجه (28 عامًا) التي تعمل في ظروف أقرب إلى المعجزة.
تقول أماني وهي تمسح عرقها بعد ولادة متعسّرة أجرتها دون تخدير أو أجهزة مراقبة:'لم نعد نملك رفاهية الانتظار، نُجري الولادات على ضوء الهاتف المحمول، ونقطع الحبل السري بمقصّ معقّم في قدر ماء مغلي، بينما الطائرات تحلّق فوق رؤوسنا. كل صرخة حياة هنا هي تحدٍ للموت'. تسكن أماني في خيمة صغيرة في مخيم النصيرات مع رضيعها، بعد أن فقدت منزلها شمال القطاع. تقول:'أصبح عملي في المستشفى امتدادًا لمعاناتي كأم. أرى في كل مولود وجه ابني، وأخاف عليه من ذات المصير الذي يتهدد كل طفل هنا'. وتضيف:'في الأيام الأخيرة، لاحظنا ارتفاعًا كبيرًا في حالات الولادة المبكرة نتيجة الخوف وسوء التغذية. حتى النساء اللواتي ما زلن في شهورهن الأولى يفقدن حملهن بسبب الرعب ونقص الغذاء'. في خيمة متواضعة أقيمت على أرض رملية في دير البلح، تجلس ليزا أحمد (31 عامًا) تراقب بطنها المنتفخ، وقد اقتربت من موعد ولادتها.
تقول بنبرة يغلبها القلق: 'كل يوم أستيقظ على خوف جديد. لا مستشفى قريب، ولا وسيلة نقل، ولا ضمان أن أخرج من الولادة حيّة أنا أو طفلي. أحيانًا أتخيل أنني سألد وحدي، تحت المطر أو القصف، وهذا الشعور يقتلني أكثر من الجوع'. أما أم محمد (45 عامًا)، العاملة في مطبخ مستشفى الكويتي الميداني في خان يونس، فتروي جانبًا آخر من الصمود.
'نطبخ للمرضى وللطواقم الطبية بما يتوفر من العدس أو الأرز، لكنّ الطعام لا يكفي. أحيانًا نطبخ للأطفال فقط ونصوم نحن. عندما أرى أمًّا تلد دون غذاء أو دواء، أشعر أن الحرب تسلب منا إنسانيتنا'. وتتابع:'ورغم التعب والخوف، نصرّ على البقاء. لأننا ندرك أن كل وجبة نقدمها، وكل طبق نوصله لغرفة ولادة، هو شكل من أشكال المقاومة'. تقول وصال بركات (27 عامًا)، وهي أمّ لطفلين، إنها أنجبت طفلها الثالث في منتصف الليل بمركز طبي صغير بعد أن فقدت منزلها في بيت لاهيا:'ولدت دون تخدير، ودون حتى أنبوب مصل. كانت القابلة تهمس لي: اصبري، كلنا نحاول البقاء. بعد الولادة لم أجد شيئًا أغذي به طفلي، فحليب صدري توقف منذ أيام بسبب الجوع'. تتوقف وصال لحظة، ثم تضيف بصوت متهدّج: 'حين حملت طفلي بين يدي، شعرت أني أنجب الحياة من رحم الموت'. توضح الطبيبة ريهام خليل أخصائية النساء والتوليد في أحد المستشفيات الميدانية جنوب غزة، أنّ الصعوبات التي تواجهها المرافق الطبية تجاوزت حدود التحدي وأصبحت كارثة إنسانية حقيقية. تقول: 'نفتقر إلى أبسط مقومات العمل الطبي: الكهرباء، الأدوية، أجهزة التعقيم، وحتى المياه النظيفة. غرف العمليات تعمل بأقل من نصف طاقتها، ونضطر أحيانًا لإجراء عمليات قيصرية على ضوء الهواتف أو المصابيح اليدوية'. وتضيف: 'الانقطاع المستمر للكهرباء والمياه يؤدي إلى ارتفاع معدلات العدوى بعد الولادة، كما أن نقص وحدات الدم والمضادات الحيوية يهدد حياة الأمهات في حالات النزيف. كل دقيقة تأخير قد تساوي حياة تُفقد'. وتشير د. ريهام إلى أنّ الضغط الهائل على الكوادر الطبية، مع نقص الكوادر النسائية المتخصصة، يجعل الطواقم تعمل في ظروف تفوق طاقتها البشرية.'كثير من الزميلات الطبيبات يعملن أكثر من 18 ساعة يوميًا، وبعضهن لم يرين أسرهن منذ أسابيع. نحن نعيش بين نداء الواجب ووجع الأمومة، ونقاتل كل يوم كي نحافظ على نبض امرأة أو صرخة طفل جديد'. وفق تقارير منظمة الصحة العالمية وصندوق الأمم المتحدة للسكان: الواقع الصحي للأمهات في غزة مأساوي: نحو 50 ألف امرأة حامل في القطاع، فيما يولد 180 طفلًا يوميًا تحت ظروف بالغة القسوة.
أكثر من 10 آلاف حالة ولادة سنويًا تواجه مضاعفات تهدد الحياة.
70 % من المنشآت الصحية تضررت أو دُمّرت، ولا يعمل سوى 12 مستشفى من أصل 36 بشكل جزئي.
الأخصائية النفسية شيماء خالد تصف معاناة الطبيبات الأمهات: 'الطبيبة الأم تعيش صراعًا يوميًا بين واجبها المهني في إنقاذ الأرواح وغريزتها في حماية أطفالها. يعملن لساعات طويلة وقلوبهن معلقة بالخيام التي تؤوي أبناءهن.' وتضيف: 'الضغط العصبي غير الطبيعي يؤثر على القرارات الطبية الحرجة، ويعرّضهن للقلق والأرق والشعور بالذنب؛ ذنب لترك أطفالهن، وذنب لعدم القدرة على تقديم رعاية كافية للمرضى في ظل نقص الإمكانيات'. بين القصف والجوع، تستمر نساء غزة في حمل مسؤولية الحياة وحدهن تقريبًا.
فالحرب لم تترك لهن سوى غريزة البقاء. ومع كل مولود جديد، تتجدد الفكرة الأعمق: أن الحياة في غزة ليست فعلًا بيولوجيًا فقط، بل موقف مقاومة.
في غزة، الأم لا تملك ترف الخوف، ولا القابلة تملك خيار الراحة. بين كل صرخة مولود وأنين أم، يتجلى وجه آخر للحياة في زمن الموت.
هؤلاء النساء لا يلدن أطفالًا فحسب، بل يلدن الوطن من جديد، في كل خيمة، في كل غرفة ولادة مهددة بالقصف، وفي كل قلب لم يفقد بعد إيمانه بأن للحياة نصيبًا - حتى في قلب الحرب.