يحدث بمحض المصادفة فقط
الاحد / 12 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 19:58 - الاحد 5 أكتوبر 2025 19:58
الجمعة، 18 مايو 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
يقول سردُ كابوسي ليوم الاثنين الماضي ما هو حقيقة لا نوم فيها: أقيم في المجمَّع السَّكني المتواضع الذي يحمل الرقم 6623 من طريق مونتيزوما، ضمن نطاق الرَّمز البريدي في مدينة سان دييغو -التي هي من أعمال ولاية كاليفورنيا في هذه البلاد- 92115، وتحديدًا في شقَّة مكوَّنة من غرفة نوم صغيرة، وصالة صغيرة، ومطبخ صغير، وحمَّام صغير، وخزانة ملابس صغيرة وعديمة الأبواب محفورة في الجدار. تحمل تلك الشقَّة، الواقعة في الدور الثاني والأخير من المبنى، الرقم 71 (*).
ويقولُ كابوسي إني، وأنا في عمري الحالي، على علاقة بامرأة سوداء (ليس هناك شيء من هذا القبيل في حياتي الفعليَّة الرَّاهنة). لكني أكتشف أن تلك المرأة تخونني . ضمن هذه الملابسات يقتحم المشهد شخصٌ أبيض (بمعنى أنه بلون بشرتي) يشي كل شيء فيه بأنه مُخْبِرٌ، ويظهر على ملامحه كل الخبث وسوء الطَّويَّة، وإن كان لا يبدو أنه على علاقة بتلك المرأة السوداء، بل إن ما يربطهما استخباريَّةٌ تراتبيَّة هو الرئيس فيها، بينما هي مرؤوسته، أو هكذا بدا لي الأمر.
ويوحي لي السَّرد الكابوسي بأن تلك المرأة، في الحقيقة، إنما كانت تتجسَّس عليَّ وترفع تقارير عني إلى رئيسها وهي متخفية .
تتواتر الأحداث بصورة سريعة لا أتذكر تفاصيلها إلى أن تحدث اللقطات الأخيرة في طريق ترابيَّة بين المزارع وقت الغروب في مجز الصُّغرى، وهو الوقت الذي، في الوقائع الفعليَّة للحياة، كانت أمي تحملني فيه في رحلة يوميَّة من المزرعة الغربيَّة للوالد في القيظ لننام على السَّاحل، ثم نعود إلى المزرعة قبيل شروق اليوم التالي. وفي طورٍ يقع بُعيد ذلك من نشأتي، كنت أشعر بالخوف الشديد حين أضطر للعودة من المزرعة الغربيَّة إلى بيت الوالد على الساحل في وقت الغروب وانسدال الظلام، فهناك مخاطر ليس أقلها أن يظهر لي بعير مقطوع الرأس ويلتهمني؛ فذلك المخلوق الفظيع يخرج بعد الغروب من «المَطْيَنَة» (مكان استخراج الطين النافع لأغراض أهل القرية) القريبة ليبتلع الأطفال. وذلك الجَمَل مقطوع الرأس كان لدى الصِّغار من جيلي النسخة الأكثر ظرفًا ولطفًا من «توم أند جيري» لدى أجيال لاحقة!
كنت، في الكابوس، أحمل حجرًا كبيرًا هشَّمت به من دون أيَّة رحمة رأس تلك المرأة السَّوداء التي لم تُبدِ مقاومة تُذكر، وكأنها كانت تتوقع أن هذه هي النهاية الطبيعيَّة والجزاء العادل، وأن عليها الاستسلام لمصيرها. كانت كل بوصة من رأسها تختفي حين يصيبها الحجر كما يحدث في تقنية «المزج الإحلالي» (dissolve) السِّينمائية. وحين يحاول رئيسها المُخْبِر التدخل لإنقاذها فإنه يلقى المصير نفسه بالحجر ذاته، ويختفي رأسه في بركة لا بأس بحجمها من الدم بالكيفيَّة السِّينمائية نفسها.
كنت في نفس الليلة قد شاهدت من جديد فيلم «الفراولة البريَّة» لبيرغمَن الذي يعجبني كثيرًا، خاصة في المشهد المتَّصل (sequence) الخاص بالكابوس الافتتاحي، إضافة إلى اللقطات التي يزور فيها البروفِسور المتقاعد البيت الذي قضى فيه طفولته، ليلاقي فيه الآن أطيافها وذكرياتها البعيدة وجهًا لوجه، حيث يكون الماضي هو الحاضر.
أتذكر أني قرأت في مكان ما أن «الفراولة البريَّة»، إضافة إلى كونها الفاكهة المعروفة، فإنها تشير في السويديَّة إلى نداء استغاثة أو طلب نجدة، وقد جمع الفيلم في عنوانه كل ذلك.
أتذكر أيضًا [...] الشَّابة السَّوداء الفاتنة التي كانت أول امرأة تأخذني إلى الحنان الكامل للجسد ذات ظهيرة قائظة (ومن نافلة القول إنه حاشاها من أي صلات أمنيّة)، والتي انقطعت أخبارها عني تمامًا رغم أنها تحضرني بحنان وشفافية غامرين من حين لآخر. ويحضرني إعجابي بفيلم «الساموراي» لجان-بيير مِلفل، وتحديدًا اختياره شخصيَّةً/ ممثلةً سوداء مرتدية زيًّا أبيض لتقوم بدور الموت المُشَخصَن، وتدفع البطل إلى حتفه.
بعد يومين من ذلك ذهبت إلى قسم الأدب الإنجليزي والمقارَن في الجامعة لمعرفة السَّاعات المكتبيَّة للأستاذين اللذين سيدرِّسان مساقي «دوستويفسكي» و«السِّينما بوصفها أدبًا» بغرض الحضور لديهما والاستفسار عن طبيعة المساقين وقائمة القراءات، إلخ. أمام اللائحة التي تتضمن معلومات مبدئيَّة كانت هناك طاولة عليها عدد كبير من الأوراق الكاملة والمقصوصة التي التقطتُ واحدة منها اعتباطًا، وسجَّلت عليها المعلومات التي أريد. لكني في الليل، في شقَّتي، فوجئت بأن الوجه الآخر للورقة مطبوع عليه رسالة تنعى أحد أساتذة قسم الأدب الإنجليزي والمقارَن، الذي قضى في «مستشفى الرَّحمة» في سان دييغو.
هواجسي عن أخي مصطفى، الذي رأيته لآخر مرة قبل ست سنوات، بدأت تتكثف في عدة كوابيس موتيَّة. فكَّرت عدة مرات في الاتصال بعبدالله عبيد أو سالم علي (أبو طفول) للاستفسار عما إذا كانا قد سمعا شيئًا عنه، لكني كنت أتراجع في كل مرة بسبب تشاؤمي من أي مكالمة صادرة إلى عُمان أو واردة منها، حيث ليس هناك سوى الأخبار السيئة فقط.
[...] كان ثملًا قبل ليلتين أو ثلاث. هاتفني، وبعد أن قال «ألو» أردف أن «صديقنا الجنرال حمد صالح مات»! وقبل أن أفيق من صعقة النبأ أخذ [...] يقهقه، فهو حتمًا يرى أنه يمكن اعتبار هذا دعابة ظريفة.
كنت أتناول وجبة العشاء وحيدًا البارحة في «مطعم الزَّاوية اليونانيَّة» على طرف الحرم الجامعي، حيث يمر طريق مونتيزوما، وذلك حين قدم الطالب العُماني المَرِح، والضاحك، والمتأمرِك أكثر مما ينبغي حسين. قال لي شيئًا بالكاد يُسمع في ضحكته التي حِرتُ في مجانيَّتها، ورددتُ عليه ببعض البرم هكذا: «لا. حسب علمي ما مات حَدْ». أمام دهشته وقليل من الإيضاح المشترك تبيَّن أنه كان يسألني بلباقة الاستئذان في الانضمام إلي: «حَدْ معاك»؟، لكنني سمعتها: «حَدْ مات»؟
والبارحة أيضًا اتصل [...] مجددًا ليسأل عما إذا كنت قد اتصلت به قبلًا (وكنت قد فعلت، لكن لم يكن هناك رد). قال إنه سمع صوت جرس الهاتف في أثناء نومه، وإنه يهاتفني الآن ليستفسر عما إذا كنت من اتصل، خشية أن تكون المكالمة واردة من عُمان، حيث إن أباه قد أُدخل من جديد إلى المستشفى و«يمكن يكون مات».
لا شك أن كل هذا يحدث بمحض المصادفة فقط.
---------------------------------------
(): بعد مرور خمسة عشر عامًا على كتابة هذه المادة، أي في عام 2005، زرت تلك البناية -مكان سكني في الثمانينيَّات- فوجدتها كما كانت. تجولت فيها قليلًا قبل أن أبدأ في صعود السُّلم المؤدي إلى الدور الثاني، حيث تقع الشَّقة التي سكنت فيها، وذلك من باب الحنين، والفضول أيضًا. قلت في نفسي إني قد أطرق على الباب الزجاجي الانزلاقي للشَّقة (ذلك المبنى متقشف بحيث إن شققه استبعدت ترف الجرس الكهربائي منذ القرن الماضي) وأقدِّم نفسي للقاطن/ القاطنين الحاليين وأقول له/ لهم إني كنت أسكن هنا قبل خمسة عشر عامًا، وإني سأكون سعيدًا لو تكرم/ تكرموا لي بدخول الشقة لمدة دقيقة واحدة فقط كي أرى وأسمع ذاكرتي. لكني، لدى بلوغي منتصف السُّلم، أحسست برعشة وتسمَّرت، واعتراني شعور غامر بالحزن والعبث، فقفلت راجعًا (حاشية أضيفت إلى المتن في يوم الأربعاء، 24 سبتمبر 2025، مسقط).
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عُماني