أعمدة

لا تلمْ حياتك، لُمْ نفسك!

في تجربةٍ جعلتني -وثُلّة من الزملاء الأعزّاء- أمام أسبوعٍ فاحصٍ لشكلٍ من أشكال الكتابة، خاض غمارها طلبةُ الجامعات والكليّات في عُمان، وجدتني أترقّبُ بشغفٍ وبحواسّ يقِظة: ماذا تُريد هذه الأجيالُ الفتيّة أن تقول عبر فعل الكتابة؟ لقد كان فضولي عارمًا، يُلحّ عليّ بأسئلته: ما الذي يشغلهم حقًّا؟ ما الحساسيات الجديدة التي يتطلّعون إلى مقاربتها في عالمٍ يضجّ بالتحوّلات؟ ما الذي يُؤرّقهم، ويُشعلُ جذوتهم في هذا العصر المتفجّر بالقضايا المعرفية والسياسية والتقنية؟ 

إلا أنّ أكثر ما انهال علينا من كتاباتٍ آثر الاحتماءَ بالمألوف والمتداول، عوضَ أن يقترب من جمره الفرديّ، ذاك الجمر الذي يُخفي تحت رماده خصوبةً وغِنى لا يُقدّران. وليس في العودة إلى المألوف ما يُعاب بالضرورة، غير أنّ ما أضعف تلك الكتابات هو غيابُ الحرارة البشرية التي تمنحُ الكتابةَ حيويّتها، وذلك الركونُ المُحبط إلى لغةٍ آليّةٍ باهتةٍ، وإلى مقارباتٍ لم تجرؤ على مغادرة السطح لتخدشَ جرحًا ولو برفق. وهكذا بدت كتاباتهم ظلالًا متراقصةً لشيءٍ يُوشك على الانطفاء. 

فهل يعود الأمر إلى أنّنا أمام جيلٍ أُفرِط في تدليله مقارنةً بالأجيال السابقة؟ أم أنّه جيلٌ تعوّد أن تقترح عليه الآلةُ كلَّ شيءٍ بالنيابة عنه؟ أم أنّ الجذر أعمق من ذلك، فيكمن في المدرسة، حيث لم تعد حصّة التعبير تُعطى حقّها الطبيعي في تربية عضلة الكتابة وإبداء الرأي؟ 

في المدرسة التي تتشكّل فيها النواةُ الأولى للعلاقة باللغة، والألاعيب الأسلوبية، هناك حيثُ يمكن لانتباهةٍ صادقةٍ من أستاذٍ شديدِ الحرص أن يرقبَ البرعمَ الغضّ ويرعاه، بل ويحرضه ويلفتُ انتباهه إلى أشكالٍ قرائيةٍ قد تُغذّي نهمه الأوّل.. في ذلك المكان يُضحّى بهذه الحصّة المهمّة لأسبابٍ تتّسم بالترهّل والتقادم، كعذرِ «دسامة المنهج»، تلك الدسامةُ المُفرغة من المعنى، القائمة على الحشو والتلقين والحفظ -في غالبها- رغم أنّ أكثر ما نحتاج إليه في زمننا هذا هو تربيةُ الرأي الصلب، وصقلُ القدرة على المُحاججة والنقاش البنّاء للأفكار. 

ورغم الحداثة التقنية التي تغزو مدارسنا اليوم بسبوراتها الذكية وعروضها المذهلة، فإنّها، كما يبدو، لم تُسعفنا بعد، في استعادة حرارة الكلمات! 

ما زلتُ أذكر، تلك التجارب المريرة التي كانت تبدأ بسؤالٍ خادع: «ما رأيك في كذا وكذا؟»، فيتوهم الطالب أنّ له رأيًا يُعتدّ به، قبل أن يُفاجأ بـ«صفرٍ» كبير، فالرأيُ المطلوب ينبغي أن يُساق في ضوء الكتاب، في أحاديةٍ مفرطةٍ وتصلّبٍ لا يعرف الإصغاء. وهكذا غدت حصّة التعبير، -في أحسن أحوالها- تمرينًا على تكرار المناسبات الدينية والوطنية والأعياد، لا فسحةً جادّة لتوليد الأفكار وتحرير الخيال. 

ثمّ جاءت آلةُ البحث، قديمُها من الإنترنت وحديثُها من «شات جي بي تي»، لتُمدّ الطالب بنصوصٍ جاهزةٍ تُغنيه عن التفكير. لقد صنعنا أجيالًا تؤمن أنّ «الدرجة» أهمّ من تكوين الأفكار ونقدها، وهكذا يهبطُ العقلُ راكضًا إلى قبو الخردوات! 

منذ أسابيع قليلةٍ حدّثتني صديقتي عن درسٍ في كتاب اللغة العربية للصفّ الثاني، عنوانه «ليس هذا ضعفًا». تدور فكرته حول طفلٍ أُجبر على التخلّي عن كرته وشطيرته لصالحِ ولدٍ آخر، من غير أن يتّخذ موقفًا من الأمر. تُختتم القصّةُ بسذاجةٍ تربويّة، بوصيّة النبيّ الكريم في الإحسان إلى الجار، وشتّان ما بين الموقفين. إذ لم يُراعَ في النصّ ما قد يغرسه في وعي الطفل من ترويضٍ هشٍّ للنفس التوّاقة إلى استعادة حقوقها! 

وجدتني أستعير هذا المعنى، وكأنّه قولٌ مضمرٌ في لسان الطلبة الجامعيين الذين اطّلعنا على كتاباتهم: «ليس هذا ضعفًا، فثمّة ظروف كثيرة صنعتنا». 

لكن ليست المدرسة وحدها هي التي ينبغي أن تُلام، لا سيما وأنّ الطالب اليوم منفتح على العالم ومكتباته.. وهنا أستذكر ما قاله ريلكه في رسائله إلى شاعرٍ شاب: «لو كانت حياتك قاحلة، لا تلمْ حياتك، لُمْ نفسك لأنّك لم تستطع أن ترى فيها شيئًا». فأهمّ ما يمكن أن يتحلّى به الكاتب الشاب هو الحساسيّة الإنسانيّة، وتأمّل ذلك الذي يُضيء تحت جلودنا من مسرّاتٍ وأوجاع. وكما يقول همنغواي: «لا يولد الكاتب متمتّعًا بالمعرفة، لكنّه يولد مفطورًا على التعلّم بصورةٍ أسرع من غيره، يُذهل بالكلمات، كأنّه يقرأها لأوّل مرّة». 

هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»