أفكار وآراء

أكتوبر العمران « مدن مستدامة للناس »

ينشغل تقرير اتجاهات العمران للعام 2025 بتلك الاتجاهات المستقبلية التي تساعد مخططي المدن للتعرُّف على السيناريوهات الممكنة لتطوَّر آفاق التخطيط في ظل التقنيات الحديثة والمتغيرات البيئية إضافة إلى التحولات التي تواجهها قطاعات المياه والنقل وغيرها؛ ولهذا فإن هذا التقرير يضع مسؤولي التخطيط العمراني أمام تلك التحديات لمساعدتهم في إيجاد حلول مستدامة تتناسب مع مجتمعاتهم وأنماطها الثقافية. 

إضافة إلى ذلك؛ فإن التقرير يحدثنا عن مستقبل التخطيط العمراني، وأهمية مواكبة عوالم المتغيرات الحديثة لبناء مدن مستدامة قادرة على التصدي للتحديات خاصة تلك المتعلِّقة بالتغيرات المناخية، وارتباطها بتحديات المياه والطاقة. ولهذا فإنه يعتمد على حلول الذكاء الاصطناعي في مواكبة عالم المتغيرات لتطوير مستقبل قطاع الإسكان، والفضاء الخارجي المرتبط بعلاقة المدن بالإنسان وثقافته؛ لبناء مخططات أكثر قدرة على تلبية احتياجات أفراد المجتمع، وأكثر قربا من أنماط حياتهم اليومية. 

إن التخطيط العمراني يواجه اليوم الكثير من التحديات التي يحاول المتخصصون إيجاد حلول مستدامة لها. ورغم تلك الجهود التي تُبذل وتلك المخططات الإسكانية والقدرة على التحكم في تأثير المتغيرات، إلاّ أن احتياجات الناس وخصوصية المجتمعات دائما ما تضعهم أمام إشكالات جديدة متعلِّقة بإمكانات التطوير العمراني وأشكال التغيير التي يمكن إحداثها في أنماط الإسكان والمجمعات والمدن السكنية؛ ذلك لأن المجتمعات ترتبط بثقافتها الخاصة بالأمكنة وطريقة العيش، وإمكانات التغيير التي غالبا ما تكون بطيئة تحتاج إلى الكثير من الوقت لإيجاد أنماط جديدة وتقبلها. 

ولعل ارتباط مهام التخطيط العمراني بالتقنيات وبالذكاء الاصطناعي بشكل خاص جعل المتخصصين يطمحون إلى زيادة دمج تلك التقنيات في البناء الحضري للمدن الأمر الذي يمكِّنهم من التخطيط والتصميم بشكل أفضل، ويزيد من إمكانات مواجهة التحديات الحضرية، وإيجاد حلول ناجعة وأكثر كفاءة للمشكلات المناخية والبيئية؛ فالحلول الرقمية تفسح المجال واسعا ليس فقط لإيجاد الحلول، وإنما أيضا في تحديد سيناريوهات مستقبلية لحالة المدن وفقا للمتغيرات المناخية والتحولات الديموغرافية ما يتيح الفرصة للتخطيط الحضري القائم على أنظمة البنية التحتية الأكثر استجابة لتلك المتغيرات. 

فالذكاء الاصطناعي يسمح عن طريق أنظمة المحاكاة لاختبار تأثيرات القرارات العمرانية على الاستدامة واستخدامات المياه والطاقة، وتأثيرها كذلك على الثقافة المجتمعية؛ إذ يمكن استخدام الأدلة، وتطوير مرونتها وقدرتها على التكيُّف من خلال تلك الأنظمة. ولأن أنظمة برامج التخطيط العمراني ترتبط بأنماط الحياة المعيشية للناس وجودة الحياة والرفاهية الصحية؛ فإن تلك الأنظمة تتكيَّف مع التفاعلات الاجتماعية وإدارة الضوضاء والمساحات الخضراء التي تعزِّز الرفاهية البيئية. 

إن قدرة الذكاء الاصطناعي والإمكانات التقنية التي يوفرِّها تمنح مخططي الإسكان والعمران الحضري قدرة على التعامل مع الكثير من المرجعيات والتوليفات التي تعزِّز إمكاناتهم الإبداعية لتوليد ابتكارات عمرانية مستدامة تتواكب مع معطيات التطوُّر الحضري من ناحية، وتلائم التطور العمراني في الدولة بما يتناسب مع خصوصية المجتمع وعلاقته بالمناطق الحضرية، وإمكانات تأهيلها لتقبُّل تلك التطورات؛ وبالتالي فإن تلك الإمكانات التقنية الهائلة والتطورات في عالم التخطيط الحضري توفِّر إمكانات للإبداع والابتكار في المجال العمراني، غير أنها لابد أن تأخذ الحاجات المجتمعية والبيئية بعين الاعتبار؛ فما يصلح في مجتمع قد لا يمكن تطبيقه في مجتمع آخر. 

ولذلك فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي بما توفره من إمكانات، يُنظر إليها باعتبارها أدوات تخطيط وتصميم مساعدة تنظر إلى عمليات التخطيط بشمولية واسعة بينما تبقى ثقافة المجتمع ذات أثر بارز في تلك العمليات ليس فقط على مستوى الأشكال والأنماط الخارجية، وإنما أيضا على مستوى البنية نفسها؛ فالمدن الحضرية الجديدة تتطلَّب نمطا معيشيا مختلف قد لا يناسب جميع أفراد المجتمع إضافة إلى أهمية إيجاد مستويات ابتكارية تراعي التنوُّع الاجتماعي والثقافي للأفراد. 

إن عمليات التخطيط العمراني تتطلَّب جهودا مشتركة ما بين المعنيين بالإسكان والابتكار العمراني، ومسؤولي البيئة والمناخ، وكذلك المتخصصين في المجالات الثقافية إضافة إلى الشركاء المتخصصين في المتطلبات اللوجستية كل في اختصاصه؛ فما يعنينا في المقام الأخير تأسيس مدن مستدامة قادرة على الصمود في وجه المتغيرات نابعة من صميم حضارة المجتمع وثقافته وفكره ونمط حياته اليومي. لذا فإن التعاون والشراكة هما السبيل لتحقيق ذلك؛ فلا فائدة من مدن متطورة وتقنية غير قادرة على تلبية الاحتياجات اليومية لسكانها، ولا تضمن لهم حياة صحية ورفاهية. 

ولأن عُمان من الدول التي أولت التخطيط العمراني عناية فائقة؛ فإنه على الرغم من التنوُّع البيئي والمناخي، والتنوُّع الجيولوجي وغيره في المحافظات المختلفة، إلاَّ أن هناك طفرة واضحة في التخطيط الحضري شكَّل نقلة نوعية وقدرة على محاولة تخطي العديد من الإشكالات. فقد شهدت الأعوام القليلة الماضية تحوُّلا متسارعا في قطاع الإسكان ينشد تأسيس المدن والمجمعات السكنية الكبرى وفق منظومة تهدف إلى تخطي الإشكالات الحالية من ناحية، وتطوير آفاق التخطيط والاستعانة بالتقنيات الحديثة والاستفادة من تطورات التخطيط العمراني في العالم من ناحية أخرى. 

لهذا فإن الإعلان السنوي عن (أكتوبر العمران) كان واحد من تلك المبادرات التي تهدف إلى تطوير هذه المنظومة باعتبارها محركا أساسيا من محركات التنمية الوطنية؛ إذ يعد بما ينفذه من مؤتمرات وفعاليات ومعارض وملتقيات منصة أساسية لإبراز عُمان بوصفها مركزا إقليميا للتطوير الحضري، وها نحن نشهد يوم غد الاثنين الموافق 6 من أكتوبر انطلاق أعمال معرض ومؤتمر العمران والبيت والبناء تحت شعار (مدن مستدامة للإنسان) ضمن النسخة السادسة من هذه المبادرة. 

إن هذا المعرض والمؤتمر يشكِّل أهمية من حيث تخصصه في مجال العمران المستدام، وما يعكسه من مفاهيم تربط بين المدن والإنسان باعتباره أساس التطوير العمراني؛ حيث ينطلق التطوير من الإنسان نفسه، ويجتهد في تطوير أنماط عمرانية تتناسب معه ومع طرائق عيشه الصحية التي تراعي أهداف جودة الحياة ورفاهيتها، ولهذا فإن المؤتمر بما يطرحه من مناقشات ورؤى وحوارات تساعد في تطوير التخطيط العمراني في عُمان والعالم، ويقدِّم فرصا للتواصل والتعاون المشترك بين المشاركين وخبراء التخطيط العمراني، ويعرض آفاق التطوير العمراني ومستقبله في ظل التطورات التقنية المتسارعة والمتغيرات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية. 

إضافة إلى أن المعرض الذي يضم أكثر من (226) ركنا لمطورين عقاريين يمثِّل فرصة على مستوى التداخل وتبادل التجارب، وكذلك تقديم الخبرات العمرانية التي تمثلها عُمان سواء أكانت على مستوى مشروعات الحكومة أو مشروعات القطاع الخاص. إن المعرض سيكون منصة مهمة ليس فقط للمطوِّرين العقارين، بل أيضا للجمهور الذي يتنقَّل بين تلك المشروعات العقارية، ويتعرَّف على الإمكانات التقنية التي عزَّزتها وطوَّرتها، وتلك الإمكانات التي يمكن أن يُستفاد منها في القطاع العقاري الواسع التطوُّر. 

إن القطاع العقاري باعتباره نتاجا للتخطيط العمراني يمثِّل أساسا تنطلق منه الدولة إلى تحقيق الأهداف التنموية؛ فهو واجهة ثقافية وحضارية من ناحية كما يعكس القدرة على إيجاد حلول مستدامة للمشكلات والتحديات بطرق إبداعية وأشكال ابتكارية مراعية لأنماط حياة أفراد المجتمع ومساهمة في تحقيق الرفاه الاجتماعي من ناحية أخرى. فهذه المنظومة مهمة جدا وحساسة؛ فما نخططه اليوم لمدننا سيكون أساسا ينبني عليه مستقبل الأجيال. 

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة