أفكار وآراء

معركة الاستحواذ على «تيك توك» واليد الإسرائيلية

سبق أن تحدثتُ في مقالات سابقة عن السلاح الرقمي المُستعمل في الحروب الاقتصادية والعسكرية بين الدول، فعرضنا أمثلةً واقعية على قدرة هذه الأدوات الرقمية بما فيها منصات التواصل الاجتماعي على اختراق العقل الجمعي للمجتمعات، وصياغة السرديات السياسية والثقافية. ونتيجة لذلك الاختراق الممزوج بعناصر التسلية واللهو استطاعت منظمات كثيرة تحقيق ذلك الاختراق منها مؤسسات التجارة العالمية الكبيرة «البراندات»، ومنظمات داعمة للشذوذ الجنسي والانحلال الأخلاقي، ومنظمات صهيونية معظمها ذات بعد إرهابي مروّجة للتطرف الديني، أو للسرديات الصهيونية الداعمة للكيان وأنماط التعاطف معه، وهذا ما يفسّر سر تمسك هذه المنظمات بامتلاك هذه الأدوات الرقمية ومنصاتها؛ لأنها -وفق تصريح نتنياهو الأسبوع المنصرم- السلاحُ الجديد والأكثر تأثيرا. سنركّز في مقالنا الحالي على قضية «تيك توك» والصراع التجاري-التقني المرتبط بهذه المنصة بين أمريكا والصين والدور الإسرائيلي الصهيوني المرتبط بهذا الصراع. 

تنطلق شراراتُ هذه القضية في إبريل ٢٠٢٤ عندما تصاعد القلقُ الأمريكي بشكل رسمي من قوة منصة «تيك توك» وتأثيرها في المجتمع الأمريكي وعقله الجمعي خصوصا فئة الشباب -جيل Z وما يليه- الذي تراه حكومة ترامب عرضة للاختراق والتلاعب عبر الخوارزمية الصينية، فيعاد صياغة مساراته السياسية وميولاته التجارية بما يوافق الطموح الصيني ونزعته الاقتصادية والسياسية. أقر الكونجرس -بموجب هذا القلق- قانونا يمنع بواسطته استعمال تطبيقات ومنصات رقمية وتداولها في الجغرافيا الأمريكية حال لم توافق الشركة المالكة غير الأمريكية على بيعها أو التخلّي عن معظم حصتها للمستثمر الأمريكي، وهنا كانت الأصابع تشير إلى «تيك توك» ذات الصيت الكبير والمؤثر في أمريكا المملوكة من قبل شركة «ByteDance» الصينية التي تجني أرباحا طائلة من السوق الأمريكي عبر الشركات الدافعة للإعلانات؛ بسبب العدد الكبير للمستخدمين الأمريكيين. جاء سبتمبر ٢٠٢٥ ليضع الصين أمام خيار صعب بعد توقيع ترامب أمرا تنفيذيا لصفقة تؤيد بيع حصة لا تقل عن ٨٠٪ من ملكية «تيك توك» إلى مستثمرين أمريكيين تتقاطع مصالحهم مع الحكومة الأمريكية، والإبقاء على نسبة لا تزيد على ٢٠٪ للشركة الصينية «ByteDance». بهذا الإصرار الأمريكي تكمن الرغبة الحقيقية في الشق السياسي والعسكري أكثر من الشق التجاري؛ فيرتبط القلقُ الأمريكي من «تيك توك» وخوارزمياته بقدراته على تفكيك المجتمع الأمريكي، وإعادة توجيهه. وفي المقابل ترى الصينُ أن الابتزاز الأمريكي يهدد قلبها التقني المتقدّم المتمثّل في خوارزمية «تيك توك» وأنظمة الذكاء الاصطناعي بالإضافة إلى إعاقة مشروعها التجاري ذي المنطلقات الأيدلوجية المهتم ببناء السردية الصينية. 

لا يمكن أن ننكر البعد الصيني الآخر -غير التجاري المحض- الذي يرتبط بأهمية هيمنتها على «تيك توك» خصوصا في أمريكا؛ لما يمكن للصين أن تجمعه من بيانات مهمة تخص المواطنين الأمريكيين بما فيها السلوك والتفضيلات والتوجهات السياسية، وهذه -كما سبق ذكره- مادة خصبة للصين؛ فيمكنها تحليل البيانات، وإعادة صياغة السرديات؛ ولهذا فإن الحكومة الأمريكية ترى ذلك جزءا رئيسا من تهديدات أمنها القومي. وندرك جيدا أن الصين ترى أمريكا خصما ومنافسا وعدوا، وأن الولوجَ إلى الداخل الأمريكي عبر منصاتها الرقمية وتقنياتها أمرٌ ضروري يُكسبها عامل التفوق في هذه المنافسة، ولا تجد الصينُ هذه الأهمية -من حيث الدرجة- في أوروبا أو أفريقيا والشرق الأوسط؛ بسبب انتفاء عامل المنافسة، ولا ننسى أن المنصة الصينية «تيك توك» فقدت حضورها في الهند منذ ٢٠٢٠ بعد القرار الهندي بحظر استعمالها؛ ولهذا فإنها في موقف صعب. 

رغم ما يكشفه هذا الصراع -بصورته الظاهرية- من وجود طرفين اثنين -أمريكا والصين- وعناصر متعددة أهمها تجارية وسياسية؛ فإن طرفا آخر بدأت ملامحه بالقضية وعلاقته تتكشّف بشكل علني، ويُقصد بهذا الطرف الثالث إسرائيل التي أيدت على لسان سفاحها نتنياهو خطوة ترامب في السعي إلى امتلاك «تيك توك»، ونزعه من الهيمنة الصينية؛ لضرورته الملحة -خصوصا في هذه الفترات العصيبة التي تعصف بالكيان الصهيوني- على التأثير في المجتمع الأمريكي، وإعادة توجيه بوصلته العاطفية إلى الصف الصهيوني الذي فقد قدرته على التحكّم بالرأي العام الأمريكي كما كان يعمل سابقا عبر وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة المملوكة -معظمها- من قبل أفراد ومؤسسات صهيونية حتى النخاع. ثمّة مؤشرات تؤيد فرضية وجود تدخّل إسرائيلي مباشر للضغط على إدارة ترامب بالمسارعة إلى الاستحواذ على «تيك توك»؛ للأسباب المذكورة آنفا، ويؤيد هذه الفرضية تأييد نتنياهو العلني لهذه الخطوة في اجتماعه الأخير في مقر القنصلية الإسرائيلية في نيويورك مع بعض مؤثري منصات التواصل الاجتماعي الأمريكيين -خصوصا «تيك توك»-، وأهمية هذا التوقيت الحساس الذي تمر به إسرائيل؛ نتيجة تصاعد موجات الكراهية ضدها وضد جرائمها، وتصريحات الصحفي الأمريكي «تاكر كارلسون» بتأكده -عبر مصادر موثوقة- أن نتنياهو كان يتفاخر أمام زعماء دول آخرين بأنه يسيطر على الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها ترامب بشكل مطلق، وذكر في تصريح جديد أن ضباطا إسرائيليين اقتحموا اجتماعات في البنتاغون، وأعطوا أوامر إلى الأمريكيين فترة الحرب الأخيرة مع إيران. رغم أننا -من حيث الموضوعية- نحاول أن نعطي عنصر «الفرضية» للتدخل الإسرائيلي المستفيد الأكبر من الاستحواذ الأمريكي لـ«تيك توك»؛ لما تملكه هذه المنصة من تأثير على توجيه الرأي العام الأمريكي. ولكننا في حيز موضوعي آخر عبر ما نجده من استدلالات تؤكد الهيمنة الصهيونية الإسرائيلية على قرارات الحكومات الأمريكية والتسريبات الأخيرة التي كشفت علاقة الملياردير الأمريكي «لاري إليسون» المزمع استحواذه على «تيك توك»، وعلاقته المباشرة بإسرائيل و«توني بلير» ومشروع احتلال غزة؛ فإن إسرائيل صاحبة اليد الطولى في صنع القرار الأمريكي. 

حتى اللحظة يعد قرار الاستحواذ الأمريكي على «تيك توك» قرارا أمريكيا فرديا لم تعلن الصين الموافقة عليه رغم كل الضغوط التي تتعرض لها الشركة الصينية المالكة للمنصة والحكومة الصينية نفسها المستفيدة من البيانات والتقنية الصينية الصميمة والامتداد المالي الذي يرجع بفوائده على عموم الصين، ولكن خسارة السوق الأمريكي ليس بالهيّن بالنسبة إلى الصين. وحينها -حال موافقة الصين المُكرهة- من الممكن أن تلجأ الصين إلى التفاوض؛ لأجل المقايضة بملفات تقنية أخرى، أو مصالح تجارية أكبر مع أمريكا. وفي المقابل يمكن أيضا أن تواصل تمنّعها عبر سياسة الضغط على الشركات الأمريكية في الصين وعبر السبل القانونية المتاحة. ونجد أن القرار سياسي محض من حيث قدرة الحكومة الصينية نفسها على حسمه دون أن تترك القرار بيد الشركة الصينية؛ إذ أصدرت الصينُ قوانينَ في عامي ٢٠٢٠ و٢٠٢٣ تمنع فيه التصدير الخارجي لأي تقنيات تخص الذكاء الاصطناعي المتعلقة بالخوارزميات وأنظمة التوصيات، وتعتبر خوارزميات «تيك توك» من أهم هذه المنتجات التقنية الصينية. لا أتصور استسلاما صينيا رغم كل التدخلات الصهيونية على فحوى هذه القضية، وتسريع إنجازها للصالح الأمريكي، ولعلّ الأمر أشبه بمعركة الضرائب الجمركية الأمريكية على الصين التي لم تجنِ فيها أمريكا انتصارا حقيقيا؛ نظرا إلى الموقف الصيني الصُلب الذي لا يعرف الهزيمة. 

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني