أن تصبح الإبادة ذكرى
السبت / 11 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 19:19 - السبت 4 أكتوبر 2025 19:19
من كان يتوقع أن تستمر حرب الإبادة الجماعية لسنتين كاملتين، وأن تصبح المجازر الإسرائيلية خلالها أشبه بالنمط أو الروتين اليومي؟! سنتان من الإبادة المستمرة تعني بوضوح أن إسرائيل قد نجحت في ترويض الضمير العالمي على قبولها بأقل مضض ممكن، والأخطر من ذلك هو تأسيسها لما يمكن تسميته «ديمومة الإبادة» في الوعي والذاكرة، أي أن تصبح الإبادة خلفيةً عامةً للهوية الفلسطينية، وحالة مستمرة مألوفة، والأهم أنها قابلة للاستئناف في أي وقت وتحت أي حجة، وهي مسألة تعني إسرائيل كثيرًا، ليس على الصعيد الخارجي فحسب، بل تعنيها أيضًا كتمرين لجبهتها الداخلية على هذا النوع من ضغط حالة الحرب الطويلة الأمد.
أذكر نقاشاتنا وجدالاتنا مع الأصدقاء خلال الأيام الأولى بعد السابع من أكتوبر 2023، إذ كان أكثرنا تشاؤمًا يتوقع أن تطول الحرب لأشهر قليلة، وذلك قبل أن يصبح وصفها بالإبادة ساريًا ومعتمدًا، بينما كان الجميع واقعًا تحت تأثير المقولة القديمة عن جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يقدر على الاستنفار في أكثر من جبهة واحدة، والذي لا طاقة له بالبقاء طويلًا في ساحة المعركة. أما الترويج الإعلامي لفكرة أن الإسرائيليين لا يحتملون تكاليف الحروب الطويلة فقد ساهم بدوره في عدم أخذ الحرب بالجدية اللازمة منذ البداية، خاصة لدى أوساط عديدة كان يمكن لتحركها الباكر أن يحدث فرقًا.
كنا مخطئين طبعًا في قراءة التحول الذي أصاب العدو بعد هجمات المقاومة الفلسطينية صبيحة السابع من أكتوبر. وكنا قبل ذلك على خطأ أعمق باعتمادنا بين الحين والآخر على مقاربات ومقارنات عمرها أكثر من خمسين سنة، كأن نعود إلى الحرب الخاطفة عام 1967 أو حرب أكتوبر عام 1973 كي نفهم السلوك الحربي للكيان الصهيوني في سنة 2023. كان ذلك دليلًا على قصورنا المعرفي في متابعة الشأن الإسرائيلي وقراءة تطوراته عن كثب في السنوات الأخيرة. كنَّا نأتي متأخرين دائمًا، نصل إلى الحدث بعد خمسين سنة على الأقل!
لكن ما نفع رجاحة تحليلنا السياسي والعسكري للحرب على أهلنا ما دامت إرادتنا لإيقافها بأي وسيلة ممكنة إرادةً معطلةً إلى هذا الحد؟ حرب الإبادة على غزة أثبتت أننا نفشل دائمًا في التعبير عن أنفسنا سياسيًا (آسف على هذا الوصف: وكأننا كائنات ما دون سياسية). لا يوجد وقف فعلي للإبادة حتى اللحظة، ولكن يكفي أن نراجع كيف استمرت الفرجة على قتل الفلسطينيين أمام الكاميرات المفتوحة لندرك فضيحة هذا العصر وتواطؤ شهوده الذين هم نحن، لا أحد غيرنا. ذلك الإنكار الفردي للإبادة بتعدد مستوياته، من النفسي/ الفكري المضمر إلى السياسي والإعلامي المعلن، كان لا شكَّ إنزيمًا يغذي ديمومة الإبادة، إذ ندرك في وقت متأخر أن «تاريخ الإبادات هو تاريخ إنكارها في الوقت نفسه، وهو ما أبقاها معاصرة لنا وما منع الزمن من التقادم عليها» كما كتب ياسين الحاج صالح (العالم في «اللحظة الفاشية» - موقع «الجمهورية»).
راودتني أفكار وكوابيس كثيرة طيلة السنتين الماضيتين عن شكل اليوم التالي بعد توقف الإبادة عمليًا، فكرتُ بطعم الشمس ولون النهار في يوم الهول العظيم الذي ينتظر سكّان غزة على أطلال مدينتهم وذكرياتهم ورفات أحبابهم. أترى هل يمكن أن نصبح وقد أصبحت الإبادة الطويلة «ذكرى»؟ كيف للإبادة أن تصبح ذكرى كأي يوم في روزنامة تاريخنا الذي لم يعد سوى ذكرى لمجزرة حدثت في نفس اليوم؟ الحق أن السنتين الماضيتين زودتنا بإحساس يصور لنا الحرب وكأنها شيء لا يبدأ ولا ينتهي، وكأنها زمن مفتوح، أو شكل آخر لاستمرار الحياة العنيفة. ولكن ثمة ما هو غريب في التفكير بالزمن والذاكرة والإبادة؛ إن طولَ أمد الإبادة، ديمومتها في الحاضر الراكد، قد جعلت منها أشبه بالماضي المستمر، حيث يتداخل الحاضر في الماضي كما يدخل الأمس في اليوم، فلا يغدو فك الزمنين عن بعضهما أمرًا ممكنًا.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني