العرب والعالم

أيتام الحرب ..جيل كامل تحت رماد الإبادة في غزة

 

غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:
لم يكن الطفل رامي الزعانين، ابن التسعة أعوام، يعرف أن صورته الأخيرة مع والده ستبقى الرفيق الأوحد له في أيامه المقبلة. في السابع من أكتوبر، حينما تصاعدت الغارات الأولى على شمال قطاع غزة، كان والده يحاول تهدئته وإبعاده عن النوافذ. بعد ساعات قليلة، سقط الصاروخ على منزل العائلة، ليختفي الأب تحت الركام، تاركًا طفلاً لم يستوعب بعد أن «الغياب» قد يصبح واقعًا لا عودة منه.
يبحث عن ملامح أبيه
في الليالي التالية، ظل رامي يبحث عن أبيه في وجوه الرجال العابرين، يسأل والدته كل صباح: «متى سيعود أبي؟»، وكأن العقل الطفولي يرفض الاعتراف بأن الموت قد يختطف السند الأوحد. شيئًا فشيئًا، تبدلت ملامح الطفولة في وجهه؛ لم يعد يقضي وقته في اللعب كما كان، بل صار يجلس طويلًا عند مدخل خيمة النزوح، يراقب الأطفال وهم يلهون بقطع خشبية أو علب فارغة، دون أن يشاركهم اللعب.
مع توقف الدراسة منذ اندلاع الحرب، وجد رامي نفسه بلا كتاب ولا دفتر ولا أصوات معلمين. كان يحفظ جدول الضرب عن ظهر قلب، لكنه بات ينسى الأرقام بسهولة. أحيانًا يجلس وحيدًا يردد بعض الأناشيد التي كان يتعلمها في الصفوف السابقة، وكأنها خيط أخير يربطه بعالم فقده فجأة.
والدته تروي بمرارة كيف تغيّر سلوك ابنها، فتقول لـ«عُمان»: «رامي أصبح أكبر من عمره فجأة. يحاول أن يبدو قويًا، يساعدني في جلب الماء أو ترتيب الغطاء، لكنه ينهار في الليل، ويعود لينام بعد أن يتطلع لصورة والده على الهاتف».
اليوم، تعيش عائلة الزعانين في خيمة نزوح بإحدى مدارس وكالة الأونروا في مدينة غزة، حيث تحاول الأم توفير الحد الأدنى من الأمان لأبنائها. لكن الخوف من الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، والفقد، وضيق المكان، كلها عوامل جعلت حياة رامي أشبه بمرحلة من «طفولة متكسّرة» يصعب ترميمها.
الطفولة في مواجهة الفقد: أرقام صادمة
منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في السابع من أكتوبر 2023، عانى آلاف الأطفال من تجريد حياتهم من سنديهم—أم أو أب أو كليهما. حسب المكتب المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن عدد الأطفال الذين فقدوا أحد أو كلا الوالدين في قطاع غزة حتى أبريل 2025 بلغ 39,384 طفلًا، من بينهم حوالي 17,000 طفل باتوا يتيمين من الأب والأم معًا.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات باردة، بل مؤشرات على حجم المعاناة النفسية والاجتماعية التي يعيشها هؤلاء الأطفال: أطفال يواجهون صدمات فقد عميقة تتجاوز القدرة على استيعابها، يعيشون حياة النزوح، وأحيانًا يجدون أنفسهم بدون رعاية قانونية أو دعم مستمر.
بحسب اليونيسف، هناك حوالي 17,000 طفل في غزة أصبحوا مفصولين عن أسرهم — يعني أنهم إما فقدوا أحد الوالدين أو كلاهما، أو أنهم انفصلوا فعليًا بسبب الدمار والنزوح.
والأرقام قد تكون أكبر، لأن هناك صعوبة كبيرة في التوثيق الدقيق: الكثير من الأطفال الذين فُقدوا آباؤهم أو أمهاتهم ما زالوا مع أفراد من العائلة الممتدة أو أولوية الدعم الاجتماعي، وسط غياب الأجهزة التي تسجّل حالات اليتم الكامل.
من الناحية النفسية، الآن وبعد أكثر من عام على الحرب، الأطفال الذين فقدوا أحد الوالدين أو كلاهما يظهرون على نطاق واسع أعراضًا مثل الصدمة، انعدام الشعور بالأمان، القلق المزمن، صعوبة النوم، وتراجع في القدرات العقلية والتركيز، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف». ومع أن بعض المنظمات المحلية والدولية تحاول تقديم دعم نفسي – إلا أن عدد المستفيدين محدود جدًا بالمقارنة مع عدد المحتاجين.
الجانب التعليمي تأثر أيضًا جدًا: بدون دراسة منتظمة، وبتوقف المدارس أو تحوّلها إلى مراكز إيواء في كثير من المناطق، ضاع كثير من الأطفال الذين فقدوا أحد الوالدين فرصة الاستمرارية الأكاديمية. تؤكد لجنة خدمة الأصدقاء الأمريكية، وهي منظمة تعمل على إرساء العدل والمساواة حول العالم، أن هذا يفاقم من الشعور بالفراغ واليأس، ويجعل العودة إلى المسار التعليمي بعد الحرب أمرًا أكثر صعوبة.
المسؤولية المبكرة
يؤكد زاهر الوحيدي، مدير وحدة المعلومات الصحية في وزارة الصحة بغزة خلال حديثه لـ«عُمان»، إن نحو 15% من الأطفال اليتامى في غزة فقدوا أمهاتهم، ما «يعني أن المشهد النفسي والاجتماعي لهؤلاء سيكون أكثر تعقيدًا مقارنة بمن فقدوا آباءهم. ويشكل ذلك تحديًا مضاعفًا أمام المؤسسات الإنسانية في رعايتهم».
في مدينة خان يونس، يعيش الطفل سامي أبو طه، 11 عاماً، الذي فقد أمه في الأيام الأولى للهجوم. قبل الفاجعة كان بيت العائلة يعجّ بضحكات وصخب أطفال؛ اليوم تحوّل البيت إلى مساحة صامتة يملؤها واجب البقاء، وسامي صار يحمل عبئًا أثقل من عمره.
منذ موت والدته، تغيرت روتينيات حياته إلى ما يشبه جدولًا يوميًا من صراعات البقاء: يساعد والده في حمل العلب البلاستيكية لجلب الماء، يقف لساعات في طوابير الحصول على القليل من الطعام، ويحرس إخوته الصغار عندما ينام أبوه. الصغائر من مهام البيت غدت مسؤوليات كبرى على كتفيه.
سامي يتكلم بصوتٍ خافت عن أحلامه السابقة، لكنه سرعان ما يقاطع نفسه ليكتم حزنًا لا يريد أن يظهره أمام إخوتهم.
يقول علاء عبدالقادر أحد الجيران لـ«عُمان»: «هو الآن رجل صغير داخل جسد طفل. لا يشكو لكن وجهه يحكي عن تعب أقلّه الأطفال لا ينبغون حمله».
المتتبعون النفسيون المحليون الذين التقوه يصفون حالته بأنها نموذج لثغرة كبيرة: طفل تحوّل إلى عنصر استقرار مؤقت داخل أسرته، وفي المقابل تآكلت فرصه لأن يعيش طفولته. هذه المعادلة تترك لدى سامي آثارًا نفسية متزايدة، من ليالي تستمر بها الكوابيس إلى صعوبات في التحكم بالعواطف خلال اللعب شبه النادر حاليًا.
عبء الأخت الكبرى
مع إغلاق المدارس وتحول كثير من المباني إلى مراكز إيواء، تلاشت كل مظاهر الحياة المدرسية في أجزاء واسعة من القطاع. الأطفال باتوا يقضون أيامهم في البحث عن الماء والطعام والمأوى، وليس في صفوف أو فصول؛ وهذا الواقع يعمّق شعور الفراغ واليأس لدى الذين فقدوا أحد والديهم أو كلاهما، حيث اختفت تمامًا البيئات الآمنة التي كانت توفر روتينًا يوميًا ولو بسيطًا.
في خيمة متواضعة بمنطقة المواصي في مدينة خان يونس، تعيش رزان البغدادي، 13 عامًا، التي فقدت والديها معًا أثناء قصف طال منزل العائلة. بقيت رزان وأشقاؤها الثلاثة بلا بالغين يملكون قرارًا ثابتًا أو مأوى دائمًا، فكانت الطفلة الصغيرة أمام خيارين: الانهيار أو الاستجابة الفورية لمتطلبات الحياة.
تحولت رزان فجأة إلى من تُدير شؤون البيت المؤقت: تجهّز ما تستطيع من وجبات بسيطة، تنظف أدوات العائلة، وتطهو على نار هزيلة بينما تحاول أن تمنح إخوتها بعض الشعور بالأمان. «كنت أرسم الزهور والشمس... الآن لا أعرف إلا أن أطبخ العدس وأغسل الملابس لإخوتي»، تقول رزان لـ«عُمان» بصوتٍ متقطع يختبئ خلفه نضوج قسري.
الجيران والجمعيات يقدمون ما يستطيعون من دعم مؤقت، لكن العبء أكبر من أن تحمله فتاة في مثل سنها. منى الترك، الأخصائية الاجتماعية التي تابعت حالتها تقول: «رزان تبدو صامدة، لكنها تنهار في لحظات خصوصية. هناك خوف دائم يرافقها من أن تفشل فتترك إخوتها بلا من يعتني بهم».
وتوضح لـ«عُمان» التُرك أن حكاية رزان تمثل نمطًا متكررًا في غزة اليوم، حيث تتحوّل الفتيات الصغيرات إلى أعمدة بيوتٍ مؤقتة، ويُسرق منهن حق اللعب والراحة والحرية في الاختيار، لتبقى صورة الطفولة معلّقة بين وجع وحاجة مستمرة.
تحذير أممي
يشير الصحفي الفلسطيني عامر الفر إلى أن الصور الميدانية من المناطق الأكثر تضررًا في قطاع غزة تؤكد أن معظم الأطفال يقضون ساعات يومهم في مهام بقاء بدنية: الطوابير، جمع الحطب أو الأكياس البلاستيكية للمساعدة في إحكام السقف البلاستيكي للخيمة، ومرافقة الوالدين أو الأقارب في التحركات اليومية. ويوضح لـ«عُمان»: «هذا النمط الحياتي يستبدل معه أي روتين تربوي أو تعليمي، ويزيد من عمق الفجوة النفسية والاجتماعية لدى الأطفال الذين فقدوا رعاية والديهم».
عن هذا الواقع، يقول جوناثان كريكس، مدير الإعلام في منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسف» في فلسطين، إن الحرب في غزة أفرزت واحدة من أعقد الأزمات الإنسانية التي واجهتها المنظمة منذ عقود، حيث تحوّل آلاف الأطفال في أيام قليلة إلى أيتام بلا سند، وفقدوا ليس فقط منازلهم ومقاعدهم المدرسية، بل أيضًا الروابط الأساسية التي تشكّل عماد طفولتهم. وأضاف: «ما نراه اليوم هو انهيار شامل لشبكات الحماية التقليدية، وكل يوم يمر من دون تدخل حقيقي يعني أن جيلاً كاملاً يُدفع إلى مستقبل مجهول».
ويوضح كريكس، في تصريح لـ«عُمان» أن البيانات الميدانية التي تتابعها المنظمة تشير إلى أن عشرات الآلاف من الأطفال فقدوا أحد والديهم أو كليهما منذ اندلاع الهجوم، فيما يعيش عشرات الآلاف الآخرين في حالة انفصال عن أسرهم نتيجة النزوح القسري أو الاعتقال أو تدمير المنازل.
ويؤكد: «اليتم في غزة ليس مجرد رقم، إنه تجربة يومية يعيشها أطفال يضطرون للنوم في الخيام من دون أب أو أم، وللوقوف في الطوابير الطويلة بحثًا عن الماء والغذاء بدلًا من اللعب أو الدراسة».
ويشير إلى أن الآثار النفسية التي تترتب على هذه الفئة مدمرة على المدى البعيد، حيث ترصد الفرق الميدانية التابعة لليونيسف نسبًا متزايدة من اضطرابات النوم والقلق والانفجارات العاطفية بين الأطفال، خصوصًا أولئك الذين فقدوا أحد والديهم. «الأطفال الذين يواجهون الفقد المبكر من دون دعم متخصص يصبحون أكثر عرضة للاكتئاب والعنف وحتى الاستغلال»، بحسب كريكس، الذي شدد على أن هذه التداعيات لا تمسّ الطفل فقط بل تمتد إلى المجتمع بأسره في السنوات القادمة.
وختم المسؤول الأممي بالقول: «لا يمكننا أن نسمح لليُتم أن يصبح هوية جماعية لجيل كامل في غزة. المطلوب الآن هو تحرك دولي عاجل لتوفير الرعاية البديلة، والدعم النفسي والاجتماعي، وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى كل طفل فقد والديه. هذه مسؤولية جماعية، وإذا أخفق العالم في حملها، فإننا سنشهد تداعيات إنسانية وأمنية تستمر لعقود».