الكتابة بحبر الألم وقلم الإرادة
السبت / 11 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 18:47 - السبت 4 أكتوبر 2025 18:47
محمد بن سليمان الحضرمي
ذاك الذي يسير على كرسي متحرك، وكأنه يقود دمية كبيرة، يجلس عليها جلسة تشبه القرفصاء، صديق عرفته يسير في الدروب بخفة طائر، لكن المصائب تصبُّ بلواها على الانسان، وهو بلا حول له ولا قوة، فتلزمه أن يعيش عمره القادم على كرسي متحرك، ولأنه مؤمن بحالته، رأى أن يترك بصمة في جدار الحياة، يرسمها بقلم إرادته، فيكتب سيرته بحبر الألم، مؤكدًا إنه شخص مُعافى، وإنْ بدى بجسد مشلول، شخص عانَق الإرادة، وتمسَّك بأهدابها، وتجاوز الإعاقة الجسدية.
وبين المعافى والمعاق نقطة، يمكن أن يلغيها الانسان الصابر بممحاة الإرادة، ليخرج من دائرة المعاقين المغلقة، إلى ساحة المعافين الحُرَّة، نقطة صغيرة فقط، تصنع فارقًا كبيرًا وقرارًا مختلفًا، وتوجد قوة هائلة في النفس، وقد يُبتلى الانسان فيصبح عاجزًا، وتتوقَّد فيه الهمة أكثر، وتضخ الإرادة في جسده دماءً جديدة، يصبح بها قادِرًا على إدارة حياته، ومن كرسيه المتحرك يحرِّك الحياة.
وفي كتاب «للألم وَجْهٌ آخر»، للكاتب أحمد بن حمد الحجي، من قرية المعرى بولاية منح، سَرْدٌ وصفي لسيرة الألم التي عاشها مع الشَّلل الرُّباعي، حيث أصيب في حادث سيارة غيَّر حياته، وكان عليه أن يتعايش مع حياته الجديدة، ويتصالح مع وضعه الصحي الجديد.
أصيب أبو غسَّان الحِجِّي بحادث سير صباح الأثنين 30 نوفمبر 1998م، تسبب في كسر في الفقرات العنقية، أدَّى إلى تلف في النخاع الشوكي، ومن ثم إلى شلل رباعي، وبعد رحلة طويلة مع العلاج، امتد وجعها بين مستشفى خولة، وسفره للعلاج بمستشفيات الهند وإيران، ورحلة الأحلام الصَّعبة التي قضاها ما يقرب من شهر في الصين، كان عليه أن يتغيَّر، فحالته استقرت على كرسي متحرك، وبقي نصفه السفلي مشلولًا، ولأن الإرادة تصنع معجزاتها، فقد تقبَّل وضعه الجديد، وكأنه وُلِدَ من جديد بعد حادث سير مميت، لطَفَتْ به عناية الله، وروحه الوَثَّابة ازدادت شغفًا بالحياة، وتمسَّك الحِجِّي أكثر بأسرته، فتشابكت آمال الأسرة الحزينة عليه، بآلامه التي لا يشعر بوخزها الحاد غيره.
كان عليه أن يتغيَّر، فدوَّن سيرة الوجع التي عاشها في كتابه «للألم وجه آخر»، إصدار لا تزيد عدد صفحاته عن 116 صفحة، لكنه مشبع بحكايات باكية، توحي بإلهامات كثيرة، ورغبة حقيقية للشفاء، صدر الكتاب عن دار الانتشار العربي ببيروت عام 2015م، بعد وقوع الحادث بسبعة عشر عامًا، وصف الحِجِّي في كتابه اللحظات الصَّعبة التي عاشها، ومن الجملة الأولى، يسرد الحِجِّي سيرة سيره إلى قدره المحتوم، بعد أن خرج من بيته في قرية المعرى بمنح، متجهًا إلى مقر عمله، في مدرسة سيح الظبي بولاية العامرات، وقبيل وصوله المدرسة التي يعمل فيها مدرِّسًا، وقع في نكبة امتحان الحياة عليه، وكان امتحانًا صعبًا، قضى سنوات بين ألم وأمل وصَبْر مُرٍ، ليعود من جديد إلى الحياة، ويدخل في غمارها، وهو متقبل حياته الجديدة، مُحققا نجاحًا في اجتياز عقبات عالية من الإحباط والكآبة.
ومن الفصول المدهشة في الكتاب، زيارته للجاهل، دجَّال يعيش في مسقط، يرطن باللغة السَّواحيلية، وبسبب رغبة الحِجِّي في الشفاء، والتعلق بأية قشَّة في بحر الحيرة، تأخذه إلى ساحل الأمان، ذهب إليه رغم يقينه بجهالات الدجالين، فوثق تلك الزيارة البائسة، وكتب عما حدث له معه، مستخدمًا زيت الزيتون لدهن أطرافه السفلية، انتهت الجلسة الأولى مع الدَّجال، بطلب مبلغ من المال لإكمال العملية الوهمية، وبعد أيام عاد لزيارته مرة ثانية، مع توفير كبْش، وسكين لذبح الكبش، وثمار النارجيل، وحجارة لهشم النارجيل، فصب الدجال على رأسه بعضًا من دم الكبش المذبوح، وهو في حالة ذهول مما يرى.
المكان كما يصف الحِجِّي أشبه بأستوديو، جدرانه مطلية باللون الأحمر، حتى المعلِّم الذي استقبلهم كان يرتدي ثوبًا أحمر، لتنتهي رحلة العلاج الحمراء هذه بلا شيء، فبقي الحِجِّي على الأرض، عاجز عن الحركة كما كان، ليعود إلى منزله بعد رحلة شاقة، وقرر أن يعيش متصالحًا مع إعاقته، يسير على كرسيه المتحرك، الذي يصفه بالحصان الحديدي المميز، وهو وصف يليق به، فأينما ألتقيه أراه يعدو به، إما على ذلك الحصان الصَّغير أو على سيارة تشبه ذلك الحصان.
116 صفحة فقط، تتضمنها سيرة الوجع، المكتوبة بقلم الإرادة، وبرأيي فهذا الكتاب نواة لكتاب قادم، يمكن أن يسرد فيه الحجي، تفاصيل التفاصيل التي لم يروها بعد، هناك تفاصيل شيقة مختبئة بين الجُمل، لا يكفي الإشارة إليها تلويحًا، كاللحظات التي شعر فيها بالنعاس قبل الحادث بثواني، لحظة نعاس حالمة، لم تبلغ الثواني المعدودة، تبعتها مرارة وألم استمر سنوات وما يزال، وما بعد استفاقته وهو في السَّرير، وثيابه ملطخة بالدِّماء، ودخوله غرفة العناية المركزة، وتفاصيل أخرى في فترة مكوثه داخل المستشفى، ورحلاته بحثًا عن علاج لحالته، في الهند وإيران والصين، وتصالحه مع وضعه الصحي، كان يمكن أن يسهب في كتابة التفاصيل أكثر، ويروي سيرة مدهشة، خاصة وأن الذكريات مشوبة بالألم، الذي هو بمثابة حبره السرِّي.
وقد ذكرتني سيرة الحجي بسير أخرى وصفت الألم بدهشة موغلة في اللذة، كسيرة الكاتب محمد عيد العريمي التي سطرها في كتابه «مذاق الصبر»، تلك الرسالة التي أبكت من قرأها، وما تزال لذتها تنتقل من قارئ إلى آخر، فالكتاب لا تنفد أسراره مهما تقادمت به الأيام، وفي «مذاق الصبر» استطاع العريمي أن يعبِّر بتفاصيل أكثر، والتجربتان متشابهتان، فكلاهما أصيبا في حادث سير، وكلاهما عاشا ألم الشلل، ومن يتابع إصدارات الكُتَّاب العمانيين، فبلا شك يكون قد وقف على كتاب «مذاق الصبر» للعريمي، أو قرأ سيرته المبهرة، التي سطَّر تفاصيلها في كتابه الرائق هذا، يقول في تقديمه لسيرته: أن أصبح غير قادر على الحركة، وممارسة حياتي الطبيعية، نتيجة لإصابة في العمود الفقري، فذلك أسْوأ ما حدث في حياتي.
ويقول أيضا: كان لا سبيل أمامي سوى أن أتصالح مع الإعاقة، وأقبل شروطها، وأتعايش مع تبعاتها، مهما كانت قاسية، وكان عليَّ بناء حياة جديدة، على أنقاض أخرى تحطَّمت، وبناء أحلام أخرى. فما أمرُّ هذا التعبير عن سيرة الألم التي قابلها بالصَّبر، وتذوَّق طعمه، وكان طعم الصَّبر أشهى من مرارة الألم، فتغيَّر العريمي كما أراد، وأمضى حياته مترجمًا لصالح شركة تنمية نفط عمان، حتى أصبح كاتبا وروائيًا، وتحظى كتابته بقبول القرَّاء، ومن كرسيه المتحرك استطاع أن يبرز ككاتب، وأصبحت لحياته مذاق آخر وطعم آخر.
وبلا شك هناك تجارب أخرى، تتشابه معها، وأثناء ما كنت أعد لكتابة هذه المقالة، تعرَّفت على تجربة مهمة ورائدة في الكتابة عن الألم، تنحو في هذا السياق، وهو كتاب «رحلتي مع الصَّبر'، للكاتب الصابر صالح بن سعيد اليعربي من نزوى، يروي في هذه السيرة قصته مع الصبر بسبب الإعاقة التي نكب بها ليلة 22 ديسمبر 1976م، حيث كان يقضي وقت فراغه بممارسة لعبة «الجمباز»، وانتهت تلك القفزة قصيرة المدى بسقوطه على رأسه، وتهشم فقراته العنقية، تسبب في تلف في النخاع الشوكي، وإصابة بشلل رباعي، وخلال حياته الصابرة لم يتوارَ عن الناس، ولم ينكفئ على نفسه، بل سعى أن يبدع في الحياة، ويكتب سيرته مع الصبر، لتنتهي رحلته في الحياة عام 2023م، مخلفا وراءه خمسة كتب، وهي: «لا إعاقة بل إرادة وانطلاقة»، و«خواطر وقراءات»، و«إشراقة وانطلاقة»، و«فيض المشاعر»، و«رحلتي مع الصبر».
وما أكثر المصابين في حوادث السير، وما أكثر من عاشوا لحظات انهيار أجسادهم تحت وطأة العجز، ولعلكم تتذكرون آخرين، نُكِبُوا في صحتهم، ولو أنَّ كل مصاب يروي حكايته، لأصبح لدينا مكتبة من التجارب الإنسانية العظيمة، تسردها الأقلام، وترسم وجعها ألوان الألم.