أعمدة

وسطية..

يحل مفهوم الوسطية عند الناس، كمشروع إنساني يمكن أن يهضم كل الفوارق المتباينة بين الأفراد في أي مجتمع إنساني يكون؛ «خير الأمور يا فتى أوسطها» وهذه ــ إن لم يستوعبها العامة ــ تظل مهمة رسولية سامية عند من يعي دلالاتها، وأهمية تطبيقها على الواقع، ولكن؛ لأن الناس تتجاذبهم المصالح الذاتية الخاصة، والانحيازات والتكتلات والتجمعات، والقائمة كلها؛ في نهاية المطاف؛ على المصالح ذاتها، فهي تبقى وفق هذا الواقع - أي المصالح - نتوءات في مشروع الوسطية، على طول الخط الأفقي الذي يتفاعل من خلالها الأفراد في حياتهم اليومية، هذه هي الصورة العامة لما يذهب إليه إشكالية تطبيق الوسطية.

ولكن هل الأمر يتوقف عند هذه الصورة الذهبية الحاضنة للود الإنساني كما يحلم بها الكثيرون؟ الواقع؛ يقول: لا، وأن المسألة خاضعة لكثير من التموضعات المتعلقة بالإنسان نفسه، والغريب في الأمر؛ أن الإنسان الذي يحلم بتحقيق كل الصور الإنسانية الذاهبة إلى الود، وإلى التقارب، وإلى تجاوز المنغصات التي تقض مضجع حياته اليومية، هو ذاته من يتنكر على نفسه، ويوردها موارد الهلاك، فلا هو قادر على تحرير نفسه من مختلف التجاذبات الذاتية الخاصة التي تفوت عليه هذه الاستحقاقات الإنسانية، ولا هو قادر على توزيع مباهج العدالة لمن حوله متحررا من العوالق ذاتها، لذلك هو تائه على امتداد الأفق.

هناك من ينظر إلى الوسطية على أنها تماه إلى الحد الذي يفقد الإنسان قيمته، وشخصيته، بمعنى أن يغالط نفسه فيما يتناقض مع مصالحه؛ خدمة لمصالح الآخرين من حوله، وهناك من يرى العكس، فتحديد الموقف هو وسطية، ولكن هل هناك من ينازعك على وسطيتك في مختلف الأمور؟ الواقع أيضا يقول: نعم وذلك لسبب بسيط، وهو أن الدائرة الضيقة التي تحيط بك من أقربائك وخاصتك، وأصدقائك كثيرا قد لا يتفقون مع وسطيتك، ويرون في ذلك أنك تحمل نفسك فوق طاقتك، ومعنى هذا أنك تحرم نفسك من تطلعاتها أمام طموحاتها، وأن مبدأ الحياد الذي تعنونه الوسطية هو مجرد وهم، أو يعرض على العامة في ظروف استثنائية بغية العمل على نجاح أمر ما، وإن خالف ذلك حقيقة النفس التواقة إلى الانحياز للذات في تلك اللحظة الفارقة، وبهذا المعنى يكون الأمر أن الحالة الوسطية تصلح في مواقف ولا تصلح في مواقف أخرى، وهذه إحدى الإشكاليات التي تنتزع شرعية الوسطية في بعدها الإنساني، بل وتربك الإنسان نفسه، وتجيره للوصول إلى أهداف معينة في لحظة معينة، اقتنع بذلك أو لم يقتنع، ومتى تحقق الهدف عادت الصورة المترهلة في الحياد المطلق إلى حاضنتها النفسية، وهذا أمر مؤلم.

وقد أكد القرآن الكريم الأهمية الكبرى والسامية للوسطية، وعدت الإسلام منهجا قائما على الوسطية، ولا شك أن وسطية الإسلام تذهب إلى الأبعاد الإنسانية الجليلة، ولكن قدرة الإنسان المسلم على استيعاب البعد الإسلامي في مفهوم الوسطية يكون قاصرا مهما بذل من جهد في استيعابه، وذلك للأسباب الذاتية ذاتها التي تغربه عن كثير من الحقائق المهمة في حياته، وهذا الأمر ليس عيبا؛ بالمطلق؛ ولذلك يحتاج الإنسان دائما لمراجعة نفسه، وسلها عن الوقوع في المآزق التي تؤدي بها إلى الوقوع في المهالك الذاهبة إلى تكريس العنف، والتسلط، وعدم وضع مسافات آمنة في التعامل مع الآخر، مع التأكيد أن وجود مثل هذه المسافات بيننا وبين الآخرين لا يلغي قيمتنا، ولا يذهب بنا إلى التماهي التام لمصلحة الآخرين من حولنا، وقد قيل: «لا تكن رطبا فتعصر؛ ولا يابسا فتكسر».