التعليم في غزة..مدارس مدمرة وخيام عاجزة عن احتواء الطلبة
الأربعاء / 8 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 19:25 - الأربعاء 1 أكتوبر 2025 19:25
للعام الدراسي الثالث على التوالي، يفقد أطفال غزة حقهم في التعليم بصورته الطبيعية، بعدما تحوّل الحلم بمقاعد المدرسة إلى عبء إضافي يثقل كاهلهم مع استمرار التهجير القسري من مكان إلى آخر. داخل المخيمات، لا يحمل الأطفال حقائبهم نحو الصفوف، بل يسيرون بين أزقة عشوائية باتجاه خيام ضيقة أو ممرات مكتظة في مدارس تحوّلت إلى مراكز إيواء، حيث صارت الخيام التعليمية المؤقتة بدائل محدودة وعاجزة عن توفير بيئة تربوية أو نفسية آمنة.
في إحدى غرف مدرسة صُنعت من الشوادر بمواصي خان يونس، يتكدس عشرات الطلاب على الأرض، يكتبون دروسهم على صناديق كرتونية تحولت إلى طاولات بديلة. منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023، لم تعد المدارس في غزة مجرد أماكن للتعليم، بل صارت ركامًا يختزن ذكريات آلاف الطلبة: جدران مثقوبة بالقذائف، ساحات تحولت إلى ملاجئ، ودفاتر امتلأت بتراب الخيام بدلًا من الحبر.
شهادات من قلب المعاناة
يقول عبدالرازق أحمد، طفل في الصف السابع، وهو يشير إلى لوحة تعليمية بالية علّقت فوق باب إحدى الخيام: 'أحلم أن تنتهي هذه الحرب لأعود إلى بيتي ومدرستي في بيت لاهيا. أشتاق كثيرًا لزملاء الدراسة والحياة داخل المدرسة، كنا نردد: مدرستي بيتي الثاني، الآن صارت الخيمة بيتي الأول والثاني، فيها أعيش وأتعلم وأمارس حياتي اليومية'.
بجانبه، تجلس والدته، وهي محاضِرة جامعية سابقة، لتهمس بمرارة: 'أصبح لدى الطلاب فاقد تعليمي كبير بعد انقطاعهم لأكثر من عامين، سيعاني الجيل الحالي مستقبلًا من آثار جسيمة، فالمدارس والجامعات دُمّرت بشكل متعمد، في إطار ما يمكن وصفه بالإبادة التعليمية. فلسطين كانت تتصدر نسب التعليم عربيًا، إذ تجاوزت 97%، واليوم يقف الجيل أمام مستقبل مجهول'.
الأرقام تكشف حجم الكارثة: نحو 95% من المدارس الحكومية تضررت بدرجات متفاوتة، بينما أصيبت 803 مدارس بأضرار مباشرة، بينها 736 حكومية و67 خاصة و10 تابعة للأونروا. وبحسب تقرير أصدره مركز الميزان لحقوق الإنسان، فإن أكثر من 740 ألف طالب انقطعوا عن التعليم أو نزحوا قسرًا منذ أكتوبر 2023 حتى سبتمبر 2025.
الأستاذة نهى غانم، مديرة مدرسة ابتدائية في شمال غزة، تقول: 'حين زرت مدرستي في فترة وقف إطلاق النار المؤقت، وجدتها مدمرة بالكامل. الطاولات محطمة والجدران متصدعة، والسبورات التي علّقنا عليها أحلام الأطفال صارت ركامًا.
المدرسة تحولت إلى مأوى لآلاف النازحين. الأطفال اليوم لا يقفون في طابور الصباح، بل في طوابير الماء والطعام. أشعر بألم عميق لما وصلنا إليه'.
لكن الخسائر لم تتوقف عند البنية التحتية، بل طالت الأرواح. الطالب مجد ذيب (13 عامًا) يروي: 'عشنا أيامًا حزينة داخل مدرسة الفاخورة. صحوت على قصف شديد استهدف المدرسة، وارتكب جيش الاحتلال مجزرة راح ضحيتها عشرات النازحين. كانت أمي من بين الشهداء. منذ ذلك اليوم، صارت المدارس تذكرني بالفقد الذي لا يُنسى'.
بينما تقول سلمى خليل (14 عامًا)، التي فقدت صديقتها المقربة مرح في غارة إسرائيلية: 'كانت مرح صديقتي المفضلة التي أتقاسم معها كل شيء. كيف سأعود إلى المدرسة بدونها؟ لم يعد الأمر يتعلق بشهادات أو دراسة، بل بمن سيبقى حيًّا من زميلاتي لأكمل مشواري معه'.
هذا وتشير الإحصاءات إلى أنّ نحو 740 ألف طالب، أي 90% من إجمالي الطلبة، تأثروا بالنزوح وتدمير المدارس، فيما فقد أكثر من 25 ألف معلم بيئاتهم التدريسية. وأسفر النزاع عن إصابة 16,879 من الطلبة والمعلمين، بينهم 193 قتيلًا.
التعليم الأكثر هشاشة: ذوو الإعاقة
تقول مها محمود، والدة طفل أصم (11 عامًا): 'كان ابني يعتمد على مترجم لغة الإشارة في مدرسته، لكن المركز دُمّر ونزح المترجمون. الآن لا أحد يفسر له ما يجري، فأصبح يعاني اضطرابات نفسية وتبولًا لا إراديًا وسوء تغذية'.
أما الطالبة نور عزيز (17 عامًا)، المصابة بشلل نصفي، فتوضح: 'الخيمة التعليمية في المخيم غير مناسبة لحالتي. لا أملك كرسيًا متحركًا، والطريق مليء بالكثبان الرملية. يحملني إخوتي لأصل إلى الصف، لكنني أشعر غريبة في مكان كان من المفترض أن يكون للجميع. حلمت أن أصبح معلمة تربية رياضية، لكن إصابتي قتلت حلمي'.
تشير الأرقام إلى أنّ عدد الطلبة ذوي الإعاقة في غزة بلغ نحو 19,450 طالبًا، فيما أضافت الحرب 37,000 حالة جديدة، أي أن واحدًا من كل 25 شخصًا بات من ذوي الإعاقة.
التعليم الإلكتروني... حلّ مُقيّد
دفعت الظروف وزارة التربية والتعليم إلى اعتماد التعليم الإلكتروني عبر منصات مثل Wise School وTeams، حيث التحق نحو 295,733 طالبًا للعام الدراسي 2025/2026. لكن الفجوة الرقمية بدت صارخة؛ إذ بلغت نسبة المشاركة 24.9% للذكور مقابل 20.7% للإناث، وسط انقطاع الكهرباء وضعف الإنترنت وتكاليفه الباهظة.
الطالبة ولاء مسلم (16 عامًا)، نازحة إلى مواصي خان يونس، تقول: 'لدي هاتف قديم نتناوب عليه أنا وأخواتي. الإنترنت يقطع باستمرار، والفيديوهات تتوقف كل دقيقة. لم أتمكن من إكمال درس واحد منذ بداية العام'.
أما ضحى داوود (45 عامًا)، أم لخمسة أبناء، فتصف الواقع بقولها: 'التعليم الإلكتروني صار رفاهية. أطفالي بحاجة لأجهزة وباقات لا أستطيع توفيرها. لدي ابنة كانت في الصف العاشر عند بدء الأحداث، واليوم هي في التوجيهي. أخشى أن تسرق الحرب حلمها وتبقيها عالقة في هذه الخيمة إلى الأبد'.
المستقبل المعلّق
من جهته، يوضح خالد أبو ندى وكيل وزارة التربية والتعليم في غزة: 'فعّلنا خطةً طارئة تجمع بين المدارس الميدانية والمنصات الإلكترونية توزيع المحتوى عبر قنوات متعددة، لكن التعليم عن بُعد يواجه تحديات كبيرة في ظل انقطاع الكهرباء وتدمير شبكات الإنترنت'.
فيما تحذّر د. نفوذ أبو سعدة، أخصائية علم النفس التربوي، من 'فجوة معرفية وتعليمية عميقة إذا ظلّ جيل كامل بعيدًا عن مقاعد الدراسة'، مؤكدة أنّ 'إعادة بناء المدارس واستئناف العملية التعليمية يجب أن تكون أولوية قصوى بعد توقف الحرب، لأن التعليم هو خط الدفاع الأخير عن هوية الشعب الفلسطيني'.
بين خيام التعليم المؤقت ومقاعد إلكترونية لا تصل إلى الجميع، يقف أطفال غزة في مواجهة مستقبل غامض. ثلاث سنوات من الانقطاع جعلت المدرسة بالنسبة إليهم حلمًا بعيد المنال، وحولت التعليم من حقٍ أساسي إلى معركة يومية ضد النزوح والفقد والفقر الرقمي. وفيما تتناثر شهادات الأطفال وأمهاتهم بين ركام المدارس، يبقى السؤال مفتوحًا: هل سيُكتب لأجيال غزة أن تعود يومًا إلى صفوفها، أم سيبقى التعليم مرهونًا برحى الحرب؟