العرب والعالم

من جحيم الحرب في غزة..عائلة أم رامي على رمال التشريد جائعة بلا مأوى

 

لم تكن أم رامي السويركي (54 عامًا) تتخيل يومًا أن يتحول الشارع قرب شاطئ بحر غزة إلى بيتها، وأن تصبح الأرض بلا غطاء والجدران بلا سقف هي الملاذ الأخير لها ولأسرتها الكبيرة. خرجت من بيتها في حي الشعف شرق مدينة غزة تحت وابل من القصف الإسرائيلي العنيف، لا تحمل سوى بعض الأغطية وأكياس الملابس، فيما تخلّت عن كل شيء آخر وسط جثث الشهداء وأنين الجرحى.
تزامن نزوح عائلة أم رامي مع في جحيم غير مسبوق على غزة، جيش الاحتلال يمهد لاجتياح بري شامل عبر قصف عنيف يطال الأحياء الشرقية والشمالية للمدينة، ما أجبر آلاف المواطنين على النزوح القسري نحو الجنوب المكتظ أصلًا بأكثر من مليون نازح. لكنّ طريق النزوح لم يحمل النجاة لأم رامي، بل قادها إلى رصيف الشارع حيث جلست بجانب أبنائها وأحفادها، تتقاسم معهم وجع الغربة والجوع وقيظ شهر اغسطس .
«دارنا هُدمت فوق رؤوسنا»، تقول أم رامي وهي تجلس على حقيبة بالية وضعت فوقها قطعة قماش مهترئة لتتقي حرارة الأرض. «أنقذنا ما استطعنا من أغراض من الشوارع، وها نحن نقيم بها، نحن أربع عائلات في الشارع، لا أحد يساعدنا ولا يجلب لنا شيئًا».
تبدو ملامح الحزن محفورة على وجهها المرهق، عيناها غائرتان كأنهما تختزلان تاريخًا طويلًا من الفقدان. فقدت ابنها البكر خلال حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة. كان عمره ثلاثة وثلاثين عامًا، ترك وراءه أربعة أطفال صغارًا، أصغرهم في الثالثة من عمره لم ينطق كلمة «بابا» قط.
تتلعثم وهي تمسح دموعها بكفها النحيلة: «حفيدي لم يعرف أباه، رحل قبل أن يقول له كلمة واحدة. أي قلب يحتمل هذا؟».
نزوح تحت القصف
خرجت أم رامي من حي الشعف وسط القصف العنيف الذي لم يتوقف ليلًا أو نهارًا. كانت الطائرات الحربية تقصف المنازل عشوائيًا، والمدفعية تدكّ الأحياء بلا رحمة. لم يكن هناك وقت للتفكير أو التخطيط، فكل ما أرادته العائلة هو النجاة.
تكنل خلال حديثها لـ«عُمان»: «خرجنا نركض من بين الركام والدخان، تركنا بيوتنا وأثاثنا وأغراضنا، لم نجد مكانًا ننزح إليه».
وتضيف بصوت متعب: «قعدنا في الشارع، هنا قرب الميناء». تناشد المنظمات الإنسانية: «ابحثوا لنا عن حل، نريد مكانًا ننام فيه».
لكن المناشدات تبدو كأنها تضيع في الهواء. لا خيمة تحميهم من لهيب الشمس أو برد الليل، ولا غذاء يسد رمق أطفالهم الجياع. أجساد الصغار امتلأت بالجرب والالتهابات الجلدية، والدواء نادر، وحتى إن توفر فلا قدرة للعائلة على شرائه.
جلست إلى جوارها حفنة من الحقائب السوداء الممزقة، تحوي ما تبقى من حياتها السابقة. تقول أم رامي: «الكثير من أفراد عائلتي استشهدوا. تركنا أغراضنا بجوار الشهداء، لم نعد نريد شيئًا سوى وقف الخرب».
بجوارها، ابنها الصغير يحدّق في الفراغ، يضم حقيبة صغيرة بين ذراعيه كأنها آخر ما يملك. بينما رجل في العائلة يجلس على الأرض متكئًا على الجدار المهدم، عيناه غارقتان في الشرود. المشهد كله لوحة مكثفة من التعب والفقدان، يختصر قصة آلاف العائلات النازحة التي لم تجد مأوى.
مدينة تنهار وسكان في العراء
مدينة غزة التي كانت تضج بالحياة تتحول تدريجيا إلى مدينة أطلال. جيش الاحتلال يواصل قصفه العنيف في محاولة لإفراغ المدينة تمهيدًا لاجتياح بري واسع. النزوح الجماعي قد يشمل نحو 900 ألف إنسان، سيتم دفعهم تدريجيًا نحو وسط وجنوب قطاع غزة، حيث تكتظ المخيمات والشوارع بأكثر من مليون نازح من جولات سابقة للحرب.
لكن هذا الجنوب لم يعد يحتمل. لم تعد هناك أماكن في المدارس أو المساجد أو حتى في العراء. على الأرصفة والشواطئ يقيم الناس، يفرشون الأرض بالحصير والبطانيات، يتدثرون بملابسهم القديمة، ويواجهون الجوع والعطش والأوبئة بلا سند.
تقول أم رامي بنبرة تجمع بين الرجاء والانكسار: «أتمنى أن تقف الحرب، أن تتنازل حماس من أجل هذا الشعب الطيب، وأن تتنازل إسرائيل أيضًا. الشعب فقد الكثير من الشهداء: أطفال ونساء ورجال. أنا أريد أن تقف الحرب بأي وسيلة».
ويرفض الاحتلال مقترحًا جزئيًا وافقت عليه الفصائل الفلسطينية، لوقف إطلاق النار لمدة 60 يومًا. ويتمسك بالإفراج الكامل عن أسراه الـ«58» لدى حركة حماس وتسليم سلاح المقاومة، دون حتى أن يبدي مرونة الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وتضيف: «تعبنا. أولادنا جاعوا. أجسادهم امتلأت بالبلاء، يريدون دواءً وهو غير موجود. وإن وُجد الدواء، لا نملك المال لشرائه. لا أحد في العائلة يعمل. أرزاقنا قطعت بعد الحرب».
أمنيتها بسيطة إلى حد اليأس: «أريد خيمة صغيرة على باب بيتي المهدوم، بدل هذا التشرد و(الشنططة) من حي الشعف إلى الميناء. فقط خيمة أعيش فيها مع أحفادي، أريد أن أستعيد بعض الكرامة».
صورة مكررة: لقد تعبنا
مشهد أم رامي وأسرتها في العراء قرب الميناء صورة مكررة لآلاف العائلات الغزية التي وجدت نفسها بلا بيت ولا مأوى. الحرب لم تترك خلفها سوى الركام والدماء، وأجبرت الناس على الاختيار بين الموت تحت القصف أو التشرد في الشوارع.
ومع استمرار القصف الإسرائيلي العنيف، واستعداد القوات البرية الإسرائيلية للاجتياح، يزداد النزوح الجماعي يومًا بعد يوم، وتتكدس المعاناة على أرصفة غزة الممزقة. لا ماء، لا كهرباء، لا غذاء كافٍ، لا دواء، ولا أفق قريب لوقف الحرب.
تختصر أم رامي معاناتها بعبارة موجعة: «لقد تعبنا». بين فقدان ابنها الشهيد، وتحمّل مسؤولية أحفاده الأربعة، والعيش في الشارع بلا مأوى ولا دواء ولا طعام، تتحول حياتها إلى معركة يومية مع النجاة.
ورغم كل هذا، لا تزال تتعلق بخيط رفيع من الأمل، ترفع بصرها إلى السماء وتردد: «أتمنى من الله أن تقف الحرب.. بأي طريقة، بأي وسيلة، بأي شيء».
مخاوف من كارثة إنسانية
ويواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي حشد قواته استعدادًا لاجتياح مدينة غزة، فيما أطلق عليه «عملية عربات جدعون 2». وتشير التقديرات العسكرية إلى أن نحو 130 ألف جندي جرى استدعاؤهم حتى الآن، بينهم ستين ألفًا من قوات الاحتياط، في واحدة من أوسع عمليات الحشد العسكري منذ بدء الحرب.
وبحسب الخطة، فإن قوات الاحتلال تعتزم تطويق مدينة غزة من ثلاثة محاور رئيسية: من الشرق عبر حي الشجاعية الذي يتعرض منذ شهور لقصف متواصل، ومن الوسط عبر دير البلح التي تمثل شريان الإمداد البري، ومن الجنوب عبر «محور موراغ» الذي يربط رفح بخان يونس وصولًا إلى البحر، بما يعني عزل المدينة بالكامل عن محيطها.
وقد بدأت القوات الإسرائيلية بالفعل في 20 أغسطس 2025 التوغل في بعض الأحياء الشمالية والشرقية لمدينة غزة، بينما تشير تقارير عسكرية إلى أن مرحلة الهجوم الأوسع قد تبدأ مع منتصف سبتمبر المقبل، في محاولة للسيطرة على المدينة التي تضم مئات آلاف المدنيين المحاصرين.
وتثير هذه الاستعدادات مخاوف من كارثة إنسانية مضاعفة، إذ يجد قرابة 900 ألف نازح أنفسهم مجبرين على الفرار تحت النار نحو الجنوب المكدّس بأكثر من مليون نازح، فيما لا يلوح في الأفق أي مخرج يوقف الدمار أو يضمن حماية المدنيين.