أعمدة

حين يكتب السيناريو شخصياتنا.. قراءة في فريندز

«في الثاني والعشرين من سبتمبر 1994 عُرضت الحلقة الأولى من المسلسل الأمريكي Friends ، منذ ذلك اليوم تغيّرت حياة أناس كثيرين، والعالم شاهد أعظم سيتكوم في التاريخ». وأصبح هذا العمل أيقونة لا تتكرر في تاريخ التلفزيون. بالنسبة إلى جيل التسعينيات، لم يكن مجرد مسلسل للضحك والترفيه، بل نافذة على حياة شبابية في مدينة نيويورك في وقت لم تكن فيه وسائل التواصل الاجتماعي قد ابتلعت العالم. كان على الناس أن يعيشوا لحظاتهم اليومية باللقاء المباشر، في المقهى أو الشارع أو البيت، ولهذا صار المقهى «سنترال بيرك» صورة حية عن زمن سابق: زمن اللقاءات الواقعية، قبل أن يستبدلها جيل الألفية بالرسائل الفورية والإيموجي.

أنقل السطرين أعلاه بتصرف بسيط من صفحة Series Mix، في الفيسبوك. أنا واحدة من الذين يعودون إلى فريندز مرارًا بلا ملل. أضحك على مواقف قديمة، وأنتبه فجأة إلى تفاصيل لم ألحظها سابقا: كوب القهوة الضخم في المقهى، مقعد متهالك، أو ثوب يرتبط بموضة التسعينيات. أحيانا أتوقف أمام رغبة شخصية في البحث عن كوب بالحجم نفسه أو كرسي باللون ذاته. لكن السؤال الذي ظلّ يؤرقني هو: ما الذي يشدّنا إلى هذه الشخصيات؟ ولماذا نرى أنفسنا في تفاصيلها الصغيرة؟

روس غيلر، مثلاً، يعكس الميل إلى التفكير المنهجي والعلمي. يحلّل المواقف بعقلانية زائدة، لكنه في الوقت نفسه يعيش ارتباكاً عاطفياً دائماً يفضح هشاشته الداخلية، في لحظة ما وجدت أن حرصي على النظام يلتقي معه، لكنني خشيت أن أجد نفسي في ارتباكه أيضاً. ثم جاءت مونيكا، أخت روس، لتصعّب الأمر أكثر. مونيكا هوسها بالنظافة والترتيب كان مثيرًا للضحك أحيانًا ومثيرًا للانزعاج في أحيان أخرى. شخصيًا، أنزعج من وسادة في غير مكانها على الكنبة في غرفة مكتبي، أو من ملعقة محشورة في المخزن بين السكاكين، لكنني لا أتضايق من بقعة قهوة على كتاب. ذلك التناقض بين فوضى الداخل وحرص الخارج على الانضباط هو ما جعلني أشعر بقرب غريب من مونيكا، حتى لو كانت شخصية مرهقة.

أما فيبي بوفاين فهي الاستثناء الذي يكسر التوقعات. مزيج من العبث والجدية، من البراءة والسخرية السوداء. تشبهني في نزوعي إلى النظر إلى الفن كرسالة وقيمة، وفي إيماني بضرورة وجود «الكائن المضحك» لإنقاذ الإنسانية المتوعكة. بتاريخها العائلي الفوضوي، وعلاقاتها الملتبسة مع أمها وأبيها وأشقائها، تفتح لنا فيبي نافذة على عالم مليء بالغرابة واللسعات، ومع ذلك لا نتوقف عن محبتها. فيبي تذكّرنا أن الحياة لا تستقيم إلا ببعض الجنون.

رايتشل غرين، كانت الوجه الآخر للجاذبية. ليست الأجمل بالمعايير التقليدية، لكنها الأكثر حضورًا. في المعايير التي يضعها الفنان عمر الشريف للمرأة الجميلة، فإن رايتشل ليست جميلة، بل جاذبة، فهي ابنة طبقة مترفة، مدللة، هاربة من زواج فاشل. حين تدخل المقهى بثوب زفافها لتبدأ رحلة التعلم والعمل، رحلة تكشف تناقضات شخصية مغطاة بورق سولوفان من السذاجة. رايتشل تحمل شيئاً من كل واحد منا: تلك القدرة على الانتقال من حياة مفروضة إلى حياة مكتسبة، من الاعتماد على الآخرين إلى محاولة الاستقلال. ولعل هذا ما جعل ملايين المشاهدين يتابعونها بإعجاب، حتى في لحظات ضعفها.

تشاندلر بينغ، هو الأكثر قرباً إلى القلب. خلف سخرية لاذعة ونكات متلاحقة يكمن جرح عميق: فشل وظيفي وعائلي، أب متحوّل جنسيًا، علاقات عاطفية مرتبكة. شخصيته تمثل الإنسان الذي يحتمي بالنكتة من مواجهة هشاشته. في تقديري، كان الأكثر تركيبًا والأبعد عن النمطية، لذلك ظل الأكثر إثارة للتعاطف. المشاهد كان يضحك على نكاته، لكنه في العمق يشعر بألمه، ويعرف أن الضحك في كثير من الأحيان مجرد قناع.

أما جوي تربياني، القادم من خلفية أمريكية -إيطالية بسيطة، فكان مرآة للبراءة. شهيته للطعام وضحكته الطفولية وإيمانه بالصداقات البسيطة تجعله نقيضًا لروس البرجوازي. في الوقت نفسه يلتقي مع فيبي في العفوية، كاشفاً جانبًا من إنسانيتنا في أخذ الحياة ببساطة. وربما لهذا أحبه الجمهور في كل أنحاء العالم: لأنه ظلّ الطفل الكبير الذي لا يعرف التعقيد.

هذه الشخصيات الست، حين ننظر إليها معًا، تعطينا صورة متكاملة عن الإنسان المعاصر: خوفه من الوحدة، رغبته في الحب، بحثه عن الصداقة، ومحاولته المستمرة للتوازن بين العمل والحياة. السؤال هنا: ما الذي جعل فريندز يحتفظ بمكانته بعد ثلاثة عقود؟ الجواب يكمن في السيناريو. الفكرة الأساسية بسيطة: ستة أصدقاء يجتمعون يوميًا في مقهى صغير بنيويورك. لكن السيناريو نجح في بناء شخصيات متعددة الطبقات، لكل منها خلفية، تناقضات، وأزمات شخصية، تجعلها قابلة للتشابه معنا أو النفور منها. هذا العمق هو ما يميز «السيناريو الجيد» عن غيره.

السيناريو السطحي يقدّم شخصيات كليشيهية: غنية أو فقيرة، شريرة أو طيبة، بلا ظلال أو صراع داخلي. أما السيناريو الجيد، فهو الذي يُشعر المشاهد أن الشخصيات تشبهه وتكتب حياته بطريقة ما. لذلك ليس غريبًا أن يعود جمهور المنصات اليوم إلى مسلسلات الثمانينيات والتسعينيات، عربية وأجنبية، لأن قوة النص وقوة الشخصيات تتجاوز الزمن. وعلى العكس من ذلك، نرى أعمالًا جديدة تُصرف عليها ميزانيات ضخمة لكنها تسقط سريعًا في النسيان؛ لأنها لم تُبْنَ على قصص وشخصيات حقيقية.

السيناريو، في جوهره، ليس مجرد كلمات على ورق، بل هو ما سمّاه الناقد الأمريكي سيد فيلد بـ«الإخراج النظري». إنه الخطة التي تقف وراء العمل المرئي كله. ولكي يكون النص متماسكًا، يجب أن يقف خلفه كاتب يملك ثقافة واسعة، وتجربة حياتية، وتواضعًا معرفيًا. الكاتب الذي يكتفي بذاته لا يرى إلا صورته، أما الكاتب الجيد فيفتح نصه على الحياة كلّها. وقد أثبتت تجربة فريندز أن السيناريو، حين يُكتب بوعي وتجربة إنسانية، يمكن أن يظل حيًا حتى بعد عقود.

فريندز ليس مجرد مسلسل كوميدي. إنه اختبار متجدد لعلاقتنا بأنفسنا وبالآخرين. كل شخصية فيه تعكس جانبًا من حياتنا: ما نخافه، ما نحبه، وما نودّ أن نكونه. بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا، ما زال المسلسل يُثير فينا الضحك والحنين؛ لأن السيناريو الذي كُتب بحب وحرفية صار جزءًا من وعينا الجمعي. السيناريو الجيد، إذن، لا يشيخ. إنه يَكتب شخصياتنا قبل أن ندرك ذلك، ويمنحنا أصدقاء نعود إليهم كلما أردنا أن نضحك أو نتذكر أننا بشر.