نساء تقليديات عبر البودكاست غير التقليدي
الثلاثاء / 7 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 19:49 - الثلاثاء 30 سبتمبر 2025 19:49
قضيت هذا الأسبوع أفكّر في البودكاست العربي عن المرأة. لم أنسَ الرجال الأربعة في برنامج «بودكاست عن البودكاست» على قناة العربي، وهم يتحدثون عن غياب المرأة العربية عن البودكاست، لكنهم قطعًا أشاروا لتجارب لم يسموها عن اهتمامهن بالجمال والتربية والصحة النفسية. وبغض النظر عما ينطوي عليه هذا من ازدراء لهذه المجالات وأن من يتحدثون عن النساء رجال حصرًا في مصادرة لصوتهن، إلا أنني شعرتُ بالغيظ حينها، لتوصيف مبسط لم يقرأ السياقات السلطوية التي يصبح فيها هذا المشهد نتيجة حتمية. فمن يمتلك تعيين هؤلاء الرجال؟ من يثق بهم دون حد؟ من يعتبر ببداهة أن مكان النساء ليس في السياسة والفكر أو في حقول بعيدة عن علم النفس، مع أنني بصراحة لا أعرف علم النفس وهو خالٍ من الفكر والنقد والتسييس مثل كل العلوم الاجتماعية. من مكن الرجال من التعليم أولًا قبل أكثر من عقدين؟
من يُلبس النساء اللون الزهري، ويتوقع منهن كذا وكذا؟.. ومن يحبس المرأة في البيت؟ من يُطلقها بشروط؟ من يلاحقها إذا نجحت في التحرر من تلك الشروط؟ أي رجل لن mansplaining في علاقته معها وهذا المفهوم يشير بالمناسبة إلى تقليد أبوي، يتحدث فيه الرجل للمرأة بتعالٍ بادراك أنه يعلمها شيئًا لا تعرفه، فلنقل إنها مرادف لـ (الأستذة).
من سيرد على هذه الأسئلة بأن فيها مبالغة، مردها الإمكانات التي منحت للمرأة العربية خلال العقدين الماضيين، في إمعان لتجاهلنا وممارسة الدور الأبوي في ترتيب أولوياتنا حول ما يعنيه أن نتحقق، ومن جهة أخرى يُنمطنا من جديد في وزيرات وطبيبات وتاجرات... وأمهات بكل تأكيد. هم من يحددون متى نبالغ؟ متى نكون عاطفيات مقابل عقلانيتهم.
أتابع مشهد البودكاست عن قرب، هذا الوسيط غير التقليدي، الذي أزاح مكانة الإذاعة والتلفزيون، أترقب مشاريع بودكاست عربي بإنتاج ضخم تقدمها نساء كما هو الحال مع الرجال، لكنها حتى الآن مع ندرتها لا تتجاوز موضوعات مكرسة في البنية المرجعية لثقافة مجتمعنا الذكورية، لا تستخدم منظورًا «نسويًّا» ففي هذا السياق المعرفي الذي نعيشه، لا يهم إن كان من يقدمها رجل أم امرأة. ما الذي نتوقعه إذن من أنفسنا؟ ما الذي نتوقعه من النساء؟
تابعت برنامج براح من شركة رشم للبودكاست في السعودية، تقدمه نساء ويستضيف نساء للحديث عن موضوعات تتعلق بهن. لكن البرنامج يمثل استيرادًا واضحًا لحراك في الغرب، مثل «Tradwife وهي اختصار لـ Traditional Wife = الزوجة التقليدية، يقلب هذا الحراك الطاولة على النساء العاملات خارج المنزل بعد أن ربطت الخطابات خلال العقود الأخيرة تحررها بخروجها منه. لا يبدو الأمر غريبًا في الغرب فمع السياق المعرفي العام الذي أنتج خطابًا يمينيًّا معاديًا لفئات اجتماعية عديدة من بينها النساء طبعًا بالإضافة لتغيير شروط العالم الرأسمالي ورغباته. تطالب النساء من خلال هذا الحراك باستعادة ديناميكيات الأسرة التقليدية. تقدم بحسب مور باربورولي من خلال الأبعاد الخمسة للشخصية الإلكترونية: «علنية، أدائية، جماعية، ولها قيمة قصدية مباشرة».
تقول إحدى ضيفات البرنامج بينما تشجعها المحاورتان بما سأنقله حرفيًّا هنا: «فأنا زوجي أول ما خطبني. أول شيء قلتله تقدر توفرلي خدامة وسواق فقلي إذا مارح تقبلي الزواج، فقلت له أيوه... أنا ما أقدر أتعب، قالي كيف، أنا أعرف نفسي لو أنا تعبت مارح أأدي الشيء اللي أنا موجودة عشانه أمي علمتنا... الزوجة ماهي موجودة تنظف وتكنس، الزوجة موجودة عشان تربي أسرة تربي عيلة، ترا من أيام الصحابة والرسول ترا كان في جواري، خدم يخدموا البيوت، وكانت من صخر وتراب صغيرة.. معناته ايش الهدف الأساسي للأم... تربي، ترا التربية جهاد، جهاد، جهاد، جهاد، حقيقي مو طبيعي وظيفتها الأساسية في الكون ذا هي التكاثر، والتكاثر هل أجيب الأولاد وأرميهم، معناتها أنشئهم نشأة صالحة، مشيت قلتله ما أقدر أكون بدون خدامة... ومعاها حتربي صح وحتتقربي من زوجك أكثر» لا أستطيع وصف كم الإهانات في هذا المقطع الصغير المقتبس من حلقة طويلة بثت قبل أيام، لكنني سأحاول تفكيكه.
لا تقدم النساء في البرنامج أنفسهن على أنهن نساء تقليديات، على العكس من ذلك يظهرن في منصات جماهيرية، بالإضافة لمظهرهن وقدرتهن على التعبير بشفافية حتى في أكثر الموضوعات جرأة. اخترن عدم العمل والبقاء في البيت وهنا جوهر هذه المسألة (الخيار) وبأنهن وفقًا للنسوية يمتلكن الحق في اختيار طريقة عيشهن، ألا تعمل النسوية على ذلك؟ ألم تأتِ لذلك، أن تمنح المرأة حق الاختيار؟ خياري في أن أصبح زوجة تقليدية تبقى في البيت تجسيد للنسوية.
يقتبس بركتور ديفين، أستاذ مساعد في الأنثروبولوجيا بجامعة إيلون (Elon University)، وهو متخصص في دراسة بناء الهوية في الفضاءات الرقمية، في دراسته «شخصية الزوجة التقليدية (#Tradwife)» في مجلة دراسات الشخصية (Persona Studies) الصادرة 2022 عن Ann Ferguson (آن فيرغسون) - فيلسوفة نسوية أمريكية مفهوم “النسوية القائمة على الاختيار” (choice feminism) الذي يعني أن جميع الخيارات التي تتخذها النساء هي بالضرورة نسوية، لمجرد أنها اختيارات قامت بها النساء، المغالطة في هذا الاعتقاد تكمن في حقيقة أنّ كثيرًا من النساء ببساطة لا يمتلكن ذلك الخيار. لأسباب عرقية وجغرافية وثقافية وأسباب أخرى كثيرة، بالإضافة إلى أن كثيرًا من النساء غير قادرات على العمل حتى لو أردن ذلك. ولأسباب اقتصادية وقانونية، تُضطر نساء كثيرات إلى العمل بالرغم من أنّهن قد يفضلن عدمه وبهذا فإن الخيار نفسه يعكس الامتياز. فهذه الخيارات تُعرض على أنها شخصية تمامًا في حين أنها لا تنفصل عن الظروف القسرية للعمل المأجور ورأس المال النيوليبرالي. بركتور ديفين ينبه لاستخدام هؤلاء النساء لخطاب نسوي كتأطير للحركة باعتبارها خيارًا.
تتعامل هذه المرأة في مداخلتها على الإشارة الضمنية لفرق طبقي، بالتصريح المباشر عبر اتباع كلمة «الجواري» بـ «الخادمات» في اعتراف بأننا لم نغادر زمن الجواري إلا عبر تغيير المسمى، لم تتوقف هذه المرأة لثانية واحدة بعد أن قالت الجواري لتسرع في شرح وتوضيح أنها تقصد بهن الخادمات اليوم. وما لا يقال مباشرة مجسد في كون «الخادمة» ملغاة كامرأة، فهي عاملة ولا تقوم بوظيفة المرأة التقليدية: التكاثر والتربية. إن الخادمة ليست امرأة ولا تمتلك الحق نفسه. وإن جاءت من أقصى مكان في العالم، تاركة أبناءها لا للعيش حولها من دون أن تستطيع تربيتهم بل أن لا تلقاهم لسنوات وأن يكبروا دون وجودها ومعرفتها. إن هذا يمثل النسوية البيضاء الليبرالية، نسوية تعمل على انتزاع مصلحة نساء من طبقة محددة، وتنطلق من موقعهن للتفكير بالوجود والعالم، أما بقية الطبقات فليست شأن تيار ليبرالي عرفناه واختبرناه بما يكفي.