أعمدة

في مديح البطء

أول مرة سمعت فيها كلمة «الامتلاء» خارج سياقها المعتاد المرتبط بالشبع والطعام، كانت في محاضرة عن الامتلاء الفكري، أو الفائض المعرفي في عصرنا الحديث، فكثرة المعروض في وسائل الإعلام ووسائل التواصل وتعدد الخيارات جعلت الإنسان يصل إلى حالة شبع لم يكن يتصورها من قبل، شبع من الأفكار، والأخبار، والمقتنيات، والتجارب المتكررة، حتى باتت الوفرة التي حلمت بها الأجيال السابقة تتحول إلى عبء خفي يثقل الذهن والروح معًا.

هذا الشعور بالفائض والوفرة التي أصبحت عبئًا على الذهن، أطلق عليه الباحثون والمختصون مصطلح «الامتلاء الرقمي»، وهي حالة يصبح فيها الإنسان غارقًا بالمعلومات والمحتوى الرقمي لدرجة أنه يشعر بالإرهاق أو التشبع، سواء على مستوى التفكير أو التركيز أو العاطفة ويظهر هذا الامتلاء في سلوكياتنا اليومية، مثل الانتقال السريع بين مقاطع الفيديو والمقالات والمنشورات دون إنهاء أي منها، والشعور الدائم بأن هناك ما هو جديد أفضل مما نتابع، ما يولد تشتتًا دائمًا ويقوض القدرة على التركيز العميق والاستفادة الحقيقية من المعلومات.

من واقعي الشخصي وجدت نفسي واقعا في فخ هذا الامتلاء، في السابق كنت أجد متعة خاصة في قراءة كتاب ورقي واحد حتى أبلغ صفحاته الأخيرة، قبل أن أفكر في الانتقال إلى غيره، أما اليوم، ومع الانتقال إلى القراءة عبر الأجهزة اللوحية والاشتراك في مكتبات إلكترونية تعج بمئات الكتب، صار التنقّل بين العناوين عادة تسرق مني تركيزي. نادرًا ما أتمكن من تجاوز ربع كتاب قبل أن أقفز إلى آخر، وكأنني ألاحق شيئًا غامضًا لا أجده. وهكذا غدت الوفرة نفسها فخًا، تحيط بي بما لا أحتاجه من المعروض، وتحرمني في المقابل من متعة القراءة العميقة التي كنت أذوق طعمها يومًا.

يجد الامتلاء الرقمي تفسيره ضمن نظرية الاستخدامات والإشباعات الإعلامية، التي تعود بداياتها إلى أربعينيات القرن الماضي حين اختبرت أول مرة على وسائل الإعلام كالصحافة والإذاعة والتلفزيون وتوصلت هذه النظرية إلى أن الجمهور يستخدم وسائل الإعلام لإشباع رغباته التي ينشدها بنفسه، وحين تفشل الوسيلة في إشباع رغبات الفرد والجمهور فإنه يلجأ إلى وسيلة أخرى للحصول على هذا الإشباع، وهذا ما ينسحب اليوم على وسائل التواصل الحديث التي وجد فيها الجمهور إشباعا لرغباته وتلبية لحاجاته فأفرط في استخدامها إلى حد الوصول إلى التخمة والشبع والامتلاء وبات يبحث عما هو جديد ليلبي به إشباعاته ورغباته المتكررة.

ما تنتجه الوفرة والشبع أمراض وعلل تصيب الإنسان سواء أكانت عضوية أم نفسية، وهذا ما صاحب الامتلاء أو الشبع الرقمي من علل وأمراض كفقدان التركيز والتشتت المستمر والقلق الذهني، والإرهاق النفسي، والشعور بالعزلة رغم التواصل المستمر عبر الشبكات الاجتماعية. هذه الوفرة الكثيرة كان من المفترض بها أن تكون حصنا لصاحبها لكنها انقلبت من دواء إلى داء أصاب الكثير من المصابين بالتخمة الرقمية وهو ما اختارته جامعة أكسفورد كمصطلح لهذا العام 2024 بكلمة «تآكل الدماغ» وهو ما يشير إلى التدهور التدريجي في القدرات العقلية والفكرية للفرد، كنتيجة مباشرة للاستهلاك المفرط لمحتوى سطحي وتافه أو غير محفز، خاصة عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي.

وقد ربط الباحثون هذا التآكل بجملة من الأعراض المقلقة، مثل فقدان القدرة على التركيز، ارتفاع مستويات القلق والتوتر، الإرهاق العاطفي، والعزلة الاجتماعية. إنّه توصيف دقيق لحالة الإشباع الرقمي المفرط التي تحدّثنا عنها آنفًا، حيث تتحول الوفرة من أداة للتعلّم والنمو إلى قوة ضاغطة تستنزف عقولنا ومشاعرنا.

خلال بحثي في موضوع الامتلاء والوفرة الرقمية، صادفت كتابًا للكاتب كارل أونوريه بعنوان «في مديح البطء»، يتناول فيه ما أسماه «عبادة السرعة» واللهاث المستمر خلف سرابها. يقدّم الكتاب البطء بوصفه فضيلة مفقودة وحلًّا ممكنًا لكثير من أزمات حياتنا المعاصرة. أعجبتني هذه الفكرة، ووجدت فيها دعوة لإعادة النظر في إيقاع حياتنا اليومية خصوصا المتعلقة بالوقت الذي نقضيه على وسائل التواصل وعلى الإنترنت عموما، حيث إن أغلبه يذهب سدى وقررت، بعد أن أنهي كتابة هذا المقال، أن ابدأ في قراءة ذلك الكتاب بعد تحميله إلكترونيًا من ذات الفضاء الرقمي الذي يسبب لي امتلاء رقميا.