إدانةٌ
الثلاثاء / 7 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 19:38 - الثلاثاء 30 سبتمبر 2025 19:38
شدّ انتباهي مصطلح دارج في السياسة عمومًا وفي علاقة العرب بالكيان الإسرائيلي تحديدًا، وهو مصطلح 'الإدانة'، فمنذ بداية تشكّل وعيي اللّغويّ والسياسيّ وأنا أسمع في الأخبار الرسميّة واقرأ في الصحف والمجلاّت عبارة 'إدانة إسرائيل'، فإضافة إلى عبارات الإدانة اليوميّة الصادرة عن الدول العربيّة، هنالك قرارات تناهز الألف قرار الصادرة عن الأمم المتّحدة تعبّر عن إدانتها للكيان الإسرائيليّ، ممّا جعل 'دولة إسرائيل' حديثة العهد والوجود، التي يفوقها والدي سنًّا وأخلاقًا أكثر دولة على مرّ التاريخ تُوُجِّه إليها بقرارات الإدانة، وهنالك مئات القرارات أيضًا الصادرة عن الجامعة العربيّة التي تدين هذا الكيان الغاصب، حتّى ليمكن القول أنّه لا وجود لاجتماع قمّة جامعةٍ عربيّة دون بندٍ فيه إدانة الكيان الإسرائيلي، هذا القصْف من الإدانات، وهذا التكرّر اليوميّ للعبارة، دفعني إلى العودة إلى معجم العرب للوقوف على معنى أدان، ذلك أنّ الجذر اللُّغوي يدلّ على الجزاء والحساب والخضوع، أدان 'جعله مدينًا أي مقيَّدا بدَين مادي أو معنوي'، وشدّ انتباهي من جملة المعاني المعجميّة التراثيّة لفعل أدان، معنى تحميل الذنب، إذ أنّ من بين الدلالات التي وضِع لها هذا الدالّ 'ألزمَهُ بالذنب: أي حمّله مسؤوليته'، ولعلّ هذا المعنى هو أقرب المعاني لما يُتَداول اليوم في شأن الإدانة السياسيّة، التي مججناها وكرهناها وأصبحت خاوية من معناها، أنْ نُحمّل الكيان الصهيوني مسؤوليّة ما يأتيه من جرائم منذ تدنيسه بيت المقدس إلى الساعة الحاضرة، فهذا أمرٌ قد انتهينا منه، ولكن أن تتطوّر الإدانة إلى فعلٍ فذاك أمرٌ بعيد المنال. قلتُ أنّ مستعملي لفظة 'الإدانة' قد انتبهوا إلى فقدانها لأثرها ودلالتها، وأنّها أصبحت مناط سخريّة وأصبحنا في كلّ انعقاد قمّة عربيّة نردّد أنّ المجتمعين سيصدرون قرارًا بالإدانة ويعودون إلى بيوتهم هانئين فرحين.
الإدانة هي تحميل للذنب، فما فائدة أن ندين بفراغٍ قوليّ، لذلك أصبح البعض يُلحق بالإدانة نعتًا أو نعوتًا، 'الإدانة بأشدّ عبارات الإدانة'، الإدانة الشديدة'، وقد نبّه الرئيس اللبناني مؤخّرا في خطابٍ له أنّ كلّ عبارات الإدانة أصبحت عاجزة أمام وصف ما يقوم به الكيان الصهيوني، فاللّغة أصبحت عاجزة، قاصرة، فما الحلّ؟ نعود إلى قرارٍ هامّ صادر عن الجامعة العربيّة في قمّة الخرطوم سنة 1967، وهو قرار اللاّءات الثلاث، لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض.
وهو قرارٌ يعمل الكيان الصهيوني على تأكيده، فلا إمكان للصلح مع هذا الكيان الذي أتى جرائم فاقت جرائم النازية بأشواطٍ، وعاثَ في الأرض فسادًا وبطْشًا، تحت حماية أمريكيّة وعدد من تعطيل قرارات الإدانة الأمميّة قياسيّ، ولا ينبغي أخلاقيّا ودينيّا وقوميّا أن نعترف بوجوده السرطاني، لأنّه أثبت عبر التاريخ أنّه كلّما وجد فرصةً أعاد مقولته الرجعيّة السلفيّة النازية العرقيّة لتحقيق دولته الدينيّة الوهميّة، إسرائيل الكبرى التي تمحو أقوامًا وبلدانًا وشعوبًا، ولا تفاوض، لأنّ هذا الكيان يُقتِّل المفاوِضين ويعصِف بالوسطاء والشركاء، وأبدى أنّ أصل مشكلته عِرقيّة ودينيّة، ولا يُمكن أن يكون شريكًا أو جارًا أو صديقًا. المواجهة اللّغويّة العربيّة للكيان الصهيوني في حاجة إلى مراجعةٍ وإعادة تشكيلٍ لخطابٍ مختلف، يخرج عن صيغة خطاب أربعينيّات القرن العشرين، خطاب 'الإدانة' و'الشجب' و'الاستنكار'، هو خطابٌ لا قيمة له استهلاكًا محليًّا أو ترويجيّا خارجيّا أو ترهيبًا وتخويفًا للعدوّ. يحتاج الخطاب العربيّ إلى تحيين وتغيير يُمكن أن يؤثّر في شعوبٍ عربيّة ملّت الاستنكار ونفرت الشجب وسخرت من الإدانة. و لاشكّ أنّ الشعب العربيّ عندما يسمع لفظة الإدانة والشجب والاستنكار، وهي العبارات التي طبّعنا معها وفقدت دلالاتها من وفرة استعمالها دون أثرٍ أو فعلٍ، لا يعي الفوارق بينها، ولا يُدرك أنَّ الإدانة هي الوجه الإلزامي المثبت للتهمة والجُرْم، وأنّ الشجْب هي الوصف القيمي الأخلاقيّ، وأنّها عبارة دالّة على محض النكران، أمَّا الاستنكار فهي العبارة الأضعف قانونيّا في عُرف الخطاب الديبلوماسيّ، وهي عبارة عاطفيّة دالّة على اعتبار الفعل مُنْكَرًا، وهي عبارة دالّة على رفض الفعل. وفي أدبيّات الخطاب الديبلوماسيّ التراتبي فإنّ لفظة الإدانة هي العبارة الأقوى والأشدّ والأكثر قانونيّة وإلزاميّة، ويليها الشجب ثمّ الاستنكار. بطبيعة الحال، نحن في تاريخ تعاملنا مع الكيان الصهيوني لدينا ملايين الخطابات المليئة بالشجب والاستنكار والإدانة، ولديهم التقدّم على الأرض، وتقليل عدد البشر المحيطين بهم. لاشكّ أنّ عبارات الإدانة تبقى محض عبارات لا تتحوّل إلى فعلٍ، ولا يُمكن أن تتلقّاها قوى عُظمى لاستثمار الشجب والإدانة لإحقاقِ الحقّ وإقامة العدْل، ولذلك، فإنّ لنا الرضى بالخطاب، بالكلام، إدانةً، شجْبًا، استنكارًا، ولهم تحقيق ابتلاع الأرض وإقامة دولة إسرائيل الكبرى، بإفناء الفلسطينيين أوَّلا في خطّة منهجيّة خبيئةٍ وخبيثة، قائمة على التقتيل اليوميّ، بصبْرٍ وأناة، حتّى نُطبِّع مع الموت، ونألف حال التقتيل والتهجير. أصبحنا اليوم نسمع كلّ صباحٍ موت عشرات الفلسطينيين، ونعتاد على ذلك، نعتاد على الموت اليوميّ، ولا نهتزّ إلاّ بكارثة كبرى، وهو لعمري أمرٌ مخيف، مرعب. مُعجَبٌ أنا هذه الأيّام بالخطاب العربيّ في مواجهة الهزّات والأزمات، وأدعو إلى دراسة الخطاب الديبلوماسي في مختلف مراحله وأزماته، وإلى تبيّن العقل الذي يتحكّم فيه، وفي إظهار سماته التداوليّة والسيميائيّة.