أفكار وآراء

الخروج من الأورومركزية اللغوية

تشكل الأورومركزية (Eurocentrism) نظرتنا لأنفسنا والمنطقة من خلال الدخول في مكنونات الخيال عن الذات والآخر والجغرافيا والنظرة للكون عمومًا، وهكذا نجد أنفسنا ننظر إلى العالم السياسي بنظرة غربية-أوروبية جاءت مع الكولونيالية. ومن ضمن هذه النظرات التي أوحت بها الأورومركزية نظرتنا للمنطقة المحيطة بنا؛ فقد صيغت على أنها منطقة صراعات وحروب وهكذا من النظرة الأكبر (الماكرو) للنظرة الأصغر المتعلقة بالأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية (المايكرو). ومن الأمثلة عليها مصطلح «الشرق الأوسط» الذي صاغته الكولونيالية الأوروبية، وعززتها لاحقًا الأدبيات الأمريكية حتى صار العالم يتحدث عن «الشرق الأوسط» مع جميع الصور الذهنية المرتبطة به.

في تصريحات توم باراك الأخيرة التي أثارت ضجة وتم تداولها بشكل كبير في مواقع التواصل الاجتماعي، قال: «لا يوجد ما يسمى بالشرق الأوسط». وعلى الرغم من أنه يقصد أن الدول العربية ليست سوى قبائل وقرى، وقسمتها اتفاقية سايكس-بيكو ما يخدم الهدف الأكبر وراء هذه التصريحات المتعلق بترحيل الفلسطينيين من بلدانهم إلى دول الطوق؛ على اعتبار أن هؤلاء جميعًا عرب، ويمكنهم التأقلم في أي مكان يذهبون إليه، وليس شرطًا بقاؤهم في هذا المكان.

إلا أنه يمكن أخذ هذه التصريحات لإعادة التفكير في عدم الوجود الفعلي «للشرق الأوسط» سواء من الناحية اللغوية أو من الناحية الجغرافية؛ إذ يطرح المصطلح تساؤلا جوهريًّا قديمًا من الأساس «الشرق الأوسط من أي جهة؟ وبالنسبة لمن؟»، لكن في الوقت ذاته ينبغي الحذر من تداعيات هذه الدلالات التي يود الوصول إليها باراك في تصريحاته، وعدم الانجرار العاطفي خلفها كما يفعل الكثير.

في دراسة بعنوان (The concept of the Middle East and the historical breaking points of the Middle East) منشورة في جامعة إسطنبول؛ يذكر الكاتب أن ادعاء موجودًا يذكر أن أول استخدام لمصطلح «الشرق الأوسط» كان في 1850-1859 في سجلات الإدارة الهندية البريطانية (ص4 من الدراسة)، ثم استخدمه توماس إدوارد غوردون في مقال مشكلة الشرق الأوسط عام 1900 (ص5)، ثم ألفريد ماهان في 1902 (ص5)، واستعمل لاحقًا على اعتباره مصطلحًا يصف منطقة واسعة؛ فقد أنشأت القوات البريطانية مقرًا عسكريا أسمته «Middle East Command» في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، وفي 1946 أسس «معهد الشرق الأوسط» في العاصمة الأمريكية واشنطن، وفي كل هذا التاريخ يمكن ملاحظة أنه لم يكن لشعوب المنطقة أي دور في صياغة المصطلح، بل أخذوه لاحقًا على اعتباره حقيقة مسلّمًا بها تصف هذه المنطقة من العالم على الرغم من أنه يصنع نوعًا من جغرافيا متخيلة لا وجود لها إلا في العقل الأوروبي-الأمريكي الكولونيالي؛ فهو يصف العالم من زاوية نظره فحسب، والأمر ليس لغويًا فحسب، بل يُمكن تناوله على نطاق الأفكار والصور الذهنية المرتبطة بالمصطلح، والوقوف عليها ونقدها.

إن استخدام مصطلح «الشرق الأوسط» بكل علاته يفتح المجال لإعادة إنتاج تبعية فكرية للمنظور الغربي لا يُمكن الخروج منها؛ على اعتبار أن اللغة حاملة للأفكار، ولا يُمكن نقد هذه الأفكار أو تفكيكها دون تعديل الآلة اللغوية أولاً.

وعلى الرغم من أن بعض الدراسات النقدية في العالم العربي تحاول الخروج من هذا المصطلح، إلا أن الأمر لا يتم إلا من خلال صياغة مصطلح جديد أكثر عمقًا في وصف المنطقة وخارجًا منها بأدواتها ومفاهيمها، لا أدوات ومفاهيم الآخر؛ فغياب التسمية يفتح المجال للاستمرار في استخدامه أولا، وسد الفراغ من الآخر ثانيًا. وبالتالي؛ فإن واحدة من أهم خطوات الخروج من الأورومركزية في نظرتنا للمنطقة والعالم السياسي عمومًا تعديل الألفاظ التي نستخدمها لوصف ذواتنا تعريفنا عنها، ومن هنا تصبح الخطوة أكثر جدية؛ لأن استمرارها يعني تأثيرها على التكوين الهوياتي والذاتي للأفراد وصولا إلى صياغة السياسات والتصورات الدولية، وموضعة هذه المنطقة من النظام العالمي، وتأثيرها عليه.

الخروج من الأورومركزية ليس مجرد مسألة لغوية أو أكاديمية فقط، بل خطوة في إعادة بناء الوعي والهوية السياسية القائمة على تصور الذات للذات والآخر، لا تصور الآخر عنها والتصديق به، فتصبح قادرة على إعادة موضعة ذاتها في الحضارة البشرية والتأثير فيها، لا التأثر بالمنتج الفكري واللغوي والثقافي الغربي فقط؛ فهذا الخروج لا يتعارض مع التعلم من الغرب، لكنه يعيد اعتبار شعوب المنطقة لذواتها. وبدلا من أخذ تصريحات باراك -مثلا- على أنها حقائق مسلم بها، أو ردّها فورًا؛ يُمكن أخذها على أنها فرصة لإعادة النقاش حول اللغة والأفكار التي اعتبرت على أنها بديهيات انطلق منها؛ فالعودة للأفكار واللغة الأولى، ومحاولة تفكيكها لنقدها يشكل بناء معرفيًّا وخياليًّا أكثر قدرة على التماسك، وفتح جسور التواصل مع شعوب المنطقة ومع الآخر في خارجها.