أفكار وآراء

زكريا المحرمي.. الصراع الأبدي والسردية الإباضية

زكريا بن خليفة المحرمي.. المولود عام 1975م، من سكان ولاية السيب بسلطنة عُمان، درس الطب في جامعة السلطان قابوس، وتخرج فيها عام 1999م، وهو الآن استشاري أول أحياء دقيقة ومناعة بمستشفى جامعة السلطان قابوس، وأكاديمي في كلية الطب، وقد عمل رئيساً لقسم الأحياء الدقيقة. بهذا العقل المشخِّص للأدواء، والحريص على إيجاد الدواء، وبالضمير المتحلي بأخلاق الطب الرفيعة؛ اشتغل المحرمي بقراءة الفكر وتاريخه، منطلقاً من بيئته العمانية ومرجعيته الإباضية، ليطور رؤيته باتجاهٍ فكري إسلامي وفلسفي إنساني، وقد نشر بذلك عدة دراسات.

عام 2000م.. تعرفتُ على المحرمي، عندما زرتُه برفقة خالد بن مبارك الوهيبي في بيت والده بالسيب، فكان اللقاء بداية صداقة أخوية أثمرت شراكة معرفية. وبحكم الوضع الفكري حينها؛ انطلقنا لدراسة الفكر الإباضي، وكانت بيننا نقاشات ومراجعات حوله؛ فقهاً وعقيدةً وتاريخاً وفلسفةً، تمخضت عن عمل مشترك، بتأليف كتاب «السنة؛ الوحي والحكمة.. قراءة في نصوص المدرسة الإباضية» [الغبيراء، 2009م].

في خضم هذا الحراك الفكري.. أصدر المحرمي كتابه «الصراع الأبدي.. قراءة في جدليات الصراع السياسي وانقسام الموقف حولها» [الغبيراء، 2006م]. الكتاب.. يناقش الفتنة الكبرى التي وقعت بين الصحابة، والتي ظهرت بوادرها ولمّا يوارى النبي التراب. بيد أنَّهم تمكنوا من تجاوزها ببيعة أبي بكر الصديق؛ التي قال عنها عمر بن الخطاب: (كانت بيعة أبي بكر الصديق فلتة وقى الله شرها المسلمين). لكن هذا «الشر» انفتق جرابه زمن عثمان بن عفان؛ واتسع الخرق على راقعه علي بن أبي طالب، ومنذئذٍ حتى اليوم لم تنحسر تداعيات الفتنة المذهبية بين المسلمين، فكأنَّما مضى بها القدر إلى يوم القيامة دون توقف، ولهذا نحت المحرمي مصطلح «الصراع الأبدي»، وهو عنوان مُحكَم؛ وبعبارة ناصر بن أبي نبهان الخروصي (ت:1263هـ) «مُعجِز».

الكتاب.. يشمل مقدمة أجاب فيها زكريا المحرمي على سؤاله: (ما فائدة الكتاب وقد أُلّف آلاف الكتب والمقالات والقصائد عبر هذه القرون المتوالية، ولم تزد تلك المؤلفات الأمة سوى زيادة حدة المفاصلة المذهبية، وتعميق هوة الخلاف بين المدارس الإسلامية؟) بأنَّ (الكتاب عبارة عن محاولة استكناه ذات أثر لاحق لفتنة الصراع المسلح بين الصحابة، هذا الاستكناه لا يقتصر على السرد التاريخي الصرف للأحداث، مع أنَّه جزء أصيل من أصول الكتاب وفصوله، وإنَّما يتعدى ذلك إلى تأسيس منهج كلي شمولي متكامل، لتوجيه القراءة التأريخية نحو آفاق المعرفة السليمة والمنضبطة، بعيداً عن رياح العاطفة وهياج التعصب والطائفية، فهو يستعرض المختلَف فيه من المواقف وفق المتفق عليه من الأحداث والوقائع).

وبعد كشف المؤلف عن مراده؛ فقد قسّم كتابه خمسة أقسام: (القسم الأول تأسيس المنهج. القسم الثاني: القراءة التأريخية للأحداث السياسية في عصر الصحابة، من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيعة الحسن بن علي. القسم الثالث: الصحابة عند مدارس أهل السنة والجماعة. القسم الرابع: الصحابة عند مدارس الشيعة. القسم الخامس: موقف المدرسة الإباضية من الصحابة). المقال.. يسلط الضوء على الرؤية التي حررها المحرمي من خلال التعامل مع أحداث التأريخ الإسلامي الأول ومواقف المذاهب منها، وفقاً لـ(منهج كلي شمولي متكامل) ارتضاه لـ«علاج الصراع الأبدي».

نشأت الإباضية وامتدت قروناً؛ ولم توضع لها سردية تأريخية متكاملة وواضحة، وكعموم الأديان والمذاهب شكّلها تراكم جذاذات روائية متناثرة بين المصادر. ولمّا جاء العصر الحديث؛ بدأت الدراسات تهتم بالإباضية وتاريخها ومعتقداتها. في البدء.. ظهرت أربع دراسات تاريخية: دراستان إباضيتان؛ عمانية وليبية، ودراستان غير إباضيتين؛ سنية وشيعية، خدمت الرؤية الكلية لسردية المذهب الإباضي. العمانية.. هي «العقود الفضية في أصول الإباضية» لسالم بن حمد الحارثي (ت:2006م). والليبية.. «دراسات في الإباضية» لعمرو خليفة النامي (غُيّب:1984م). وأما السنية.. فهي «نشأة الحركة الإباضية» للأردني عوض محمد خليفات، والشيعية.. «الحركة الإباضية في المشرق العربي» للعراقي مهدي طالب هاشم (أعدم:1981م).

باستثناء «العقود الفضية»؛ التي أُلِّفتْ وفقاً للمنهج التاريخي التقليدي؛ فإنَّ الدراسات الثلاث الأخرى قُدِّمت لنيل شهادات أكاديمية، وقد أثّر على مبناها صعود الإسلام السياسي؛ فكُتبت تحت إيحاء تشكّله الحركي. ثم ظهرت دراسة «الخوارج والحقيقة الغائبة» لناصر بن سليمان السابعي، وجاءت في مبناها بقسميها الحديثي والتاريخي تحت ضغط الصعود الروائي السلفي في التسعينات الميلادية المنصرمة. هذه الدراسات شكّلت سردية متقاربة؛ وصححت مفاهيم خاطئة عن الإباضية، فهي جديرة بإمعان النظر فيها بموضوعية.

رغم أهمية هذه السردية؛ إلا أنَّ دراسة «الصراع الأبدي»؛ تميزت بكونها أول سردية كلامية عمانية، سبقتها دراسة تونسية «البُعد الحضاري للعقيدة الإباضية» لفرحات الجعبيري. وقد ارتكزت على بناء مفاهيم يراها المحرمي ضابطة للتعامل مع الموروث التاريخي؛ ليس تراث الإباضية وحدهم وإنَّما تراث المسلمين عامةً، صحيح؛ أنَّها مفاهيم أسس لها العلماء الإباضية المتقدمون؛ لكن المحرمي يراها موضوعية، وهذه المفاهيم؛ هي:

- «العلم والظن».. وضوابطهما أنَّ:

(1. الخبر الآحاد صحيح السند ظني الثبوت؛ لا يفيد العلم.

2. الخبر المتواتر هو الخبر الذي أجمعت الأمة على تواتره، وهو يفيد علماً ضرورياً.

3. الخبر الذي يرويه الجم الغفير من المذهب الواحد لا يعتبر متواتراً، وإنَّما يصطلح عليه بأنَّه مشهور).

وبناءً على هذه الضوابط.. يتعامل المحرمي مع روايات جميع المذاهب فيما يتعلق بالفتنة الكبرى على حدٍ سواء.

- «الولاية والبراءة».. يوصّفهما المحرمي بأنَّهما (ممارسات عقلية متمثلة في إقامة تحالفات سياسية واجتماعية وفق شرع الله، دون ارتباط هذه الممارسة بالمعاني الوجدانية كالمحبة والمودة أو البغض والكراهية، غالباً بالمواقف الشخصية المجردة)، ويرى أنَّ (استحضارنا لهذه المعاني من خلال الفهم المبني على فصل الممارسة العقلية لمفهومي الولاية والبراءة بعيداً عن ضغط العاطفة ودائرة الوجدان سيفك كثيراً من المغاليق المرتبطة بقضية «الصراع الأبدي»).

- «الصحابة والقول في عدالتهم».. يعالج المحرمي هذه القضية؛ لأنَّ المسلمين لا يزالون يستحضرونها في تكفير وتفسيق بعضهم البعض. ويرى بأنَّ تعريف (الصحابي بأنَّه كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسلم؛ يتعارض مع القول بعدالة جميع الصحابة. [فقد] ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ هناك مجموعة من المسلمين الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد وصفهم الله تعالى بأنَّهم منافقون. وأنَّ الأدلة التي سيقت في الحكم بعدالة جميع الصحابة هي أدلة عامة، ثبت بالكتاب والسنة ما يخصصها. وأنَّ دواعي العقل تقطع بجواز وجود الصحابة ساقطي العدالة، دون أنْ يؤثر ذلك على الشريعة ونقل القرآن الكريم).

- «الرسول صلى الله عليه وسلَّم والإنباء بالغيب».. ويخرج من معالجته لهذه القضية بأنَّ: (المرويات التي تتنبأ بحدوث وقائع بذاتها؛ كموت شخص أو مقتله، أو تسلط آخر، أو تغيّر حالة الحكم من خلافة عادلة إلى ملك عضوض، لا يمكن قبولها؛ وفق المنهج القرآني الحكيم. [أما] المرويات التي تستقرئ المستقبل، وتعطي نتائجها وفق قراءتها للأحداث الراهنة؛ فهي لا تتعارض والقواعد القرآنية الكلية، ولهذا يمكن قبولها؛ إذا لم يكن بها علة في متونها وأسانيدها).

إنَّ هذه «المفاهيم الكلية» التي استظهرها زكريا المحرمي من «أصول الإباضية» ووضعها في «منهج شمولي»؛ هي التي جعلتهم أقرب إلى تفهّم الأحداث الواقعة بين الصحابة، ومالت بهم إلى الابتعاد عن الفتن والصراعات، حتى سمّوا قديماً بـ«القعدة»، وصبغت المجتمعات الإباضية بالتسامح. وليت المحرمي ركّز على عصمة دم الإنسان لديهم، فالإباضية.. لم يثبت عنهم أنَّهم دخلوا في حرب؛ دينية أو مذهبية إلا دفاعاً عن النفس والحريم.

ويبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن أنْ يتفق المسلمون على «منهج كلي شمولي»؟ ولذلك؛ ينبغي أنَّ يتجاوز الكتاب محليته العُمانية إلى مستوى الفكر الإسلامي.