ندوة تستقصي أبعاد رواية «عُماني في جيش موسوليني» لماجد شيخان
من المتواليات السردية إلى الإيهام التاريخي وحدود التخييل
الاثنين / 6 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 19:12 - الاثنين 29 سبتمبر 2025 19:12
كتب - فيصل بن سعيد العلوي
نظّم صالون سعيدة خاطر الثقافي أمس في النادي الثقافي ندوة نقدية بعنوان «التحليق بأجنحة التاريخ» خُصصت لمناقشة رواية «عُماني في جيش موسوليني» للكاتب العُماني ماجد شيخان الصادرة أول مرة عام 2020 عن دار الآن ناشرون وموزعون بدعم من الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء، وأعيدت طباعتها في طبعة ثانية عام 2023. وأدارت الندوة الكاتبة غنية الشبيبية، وشارك فيها كل من الباحثة الدكتورة ابتسام بنت عبدالله الحجرية، والدكتور محروس القللي أستاذ الأدب المقارن والنقد الأدبي المساعد بجامعة السلطان قابوس كاشفين عن التباسات الهوية السردية بين السيرة والتاريخ، وعن قدرة الرواية على مساءلة الهامش، وطرح أسئلة الوجود في مواجهة سرديات السلطة.
متواليات وتحولات
استهلت الدكتورة ابتسام بنت عبدالله الحجرية مداخلتها بالإشارة إلى أن رواية «عُماني في جيش موسوليني» للكاتب ماجد شيخان أخذتها بعيدًا نحو عوالم الحكايات التي نشأت عليها؛ فهي تنتمي إلى ثقافة مملوءة بالحكايات عن نساء قويات واجهن الرجال، وغيّرن المصائر. غير أنها أمام هذا النص وجدت نفسها إزاء عمل ملتبس في تصنيفه؛ إذ بدا لها في أحيان رواية اجتماعية تنقل حكاية من واقع المجتمع، وفي أحيان أخرى رواية بوليسية تحرّك شخصياتها كما لو كانت بيادق على رقعة شطرنج، ثم عادت لتراه رواية تاريخية تستحضر زمن الفاشية والنازية، ودخولهما إلى إفريقيا، وهو ما جعلها تتأمل العلاقة بين التاريخ باعتباره عالمًا واقعيًا، والرواية باعتبارها عالمًا تخييليًا، وتتساءل عن حدود الواقع والمتخيّل، وهل يغيّر شيئًا أن تكون الرواية حقيقية أم متخيّلة؟ وأكدت «الحجرية» أن الرواية تكتسب فرادتها من تركيزها على المهمشين؛ فالتاريخ عادة يكتبه أصحاب السلطة. أما هذا النص فقد التفت إلى شخصية بعيدة عن المركز شخصية جعلت القارئ يتعاطف معها؛ لأنها قريبة منه في صدقها وبساطتها واستلابها. مضيفة أنها قرأت نفسها في كثير من صفات البطل في طيبته، في صدقه، وفي هشاشته التي جعلته أسير علاقات أكبر منه.
وتطرقت «الباحثة» إلى الأصوات السردية المتنوعة التي حفلت بها الرواية مشيرة إلى أن النص لم يكتفِ بالراوي العليم، بل اعتمد استراتيجية تعدد الأصوات؛ حيث برز صوتا خليف وألبرتينو بشكل واضح في حين ظل صوت خلف هو الأعلى حضورًا، ثم عاد النص إلى الراوي العليم في النهاية عبر شخصية أمجد الذي وعد بتدوين سيرة البطل. وأشارت إلى أن هذا التنويع في الأصوات أضفى على الرواية حيوية خاصة وعمّق وجهات النظر كما عزّز عنصر التشويق باعتماد تقنية الزمن الدائري؛ حيث يبدأ السرد بالحاضر، ثم يعود إلى الماضي عبر «الفلاش باك» ليعود من جديد إلى الحاضر.
وانتقلت «الحجرية» إلى ما سمّته بالمتواليات السردية المفصلية موضحة أن الرواية مرّت بمحطات حاسمة شكّلت منعطفات في حياة البطل؛ فالمتوالية الأولى بدأت ببلوغ خلف ورحلته الأولى مع أخواله خارج محيطه المألوف، وفيها عاش لحظة فارقة حين أصابته حالة من الأرق خرج بسببها إلى الصحراء، فسمع صوتًا. ولو أنه اعتبره صوت جني لانتهت الحكاية، لكنه أصر على أنه صوت فتاة؛ فقاد أخواله لإنقاذها، وكانت تلك الفتاة إيمان ابنة النوخذة محمد، لتبدأ منذ تلك اللحظة مسارات جديدة في حياته بزواجه منها، واستقراره في صور، وانخراطه في التجارة.
وأضافت «الحجرية»: إن المتوالية الثانية ارتبطت بقرار الاستقرار؛ ففي صور بدأ خلف مشاريعه وأحلامه ليصبح من أصحاب الأموال. غير أن دخوله في علاقة مع الإيطالي ألبرتو وابنه ألبرتينو غيّر مسار حياته؛ إذ أصبح مشغولًا بهما على حساب أسرته، حتى أن ابنه أحمد الذي لم نعرفه إلا في نهايات الرواية ظل باحثًا طوال الوقت عن أب غائب.
أما المتوالية الثالثة -كما أوضحت «الحجرية»- فقد ارتبطت بالسفر إلى الصومال؛ حيث فتح النص مسارًا جديدًا يجمع بين توثيق الكساد الكبير والوجود الإيطالي في إفريقيا. وقد رأت أن الرواية في هذا الجانب كانت معرفية أكثر منها تاريخية؛ لأنها أحكمت بناء حلقاتها، وربطت وقائعها بشكل متماسك. وفي الصومال اختاره الأهالي ليمثلهم في المفاوضات مع الإيطاليين، لكن النتائج جاءت منحازة تمامًا، وانتهت إلى تحميله ذنب الفشل، فانتقل من موقع الوسيط إلى موقع المتهم بالخيانة، وهو ما مثّل منعطفًا حاسمًا في الرواية.
وبيّنت الدكتورة ابتسام الحجرية أن التحولات استمرت مع سفر ألبرتينو إلى إيطاليا وانضمامه إلى المخابرات، ثم وفاة والده ألبرتو، ثم وصول خبر وفاة زوجة خلف إيمان، ليلقي بنفسه في أحضان جهاز المخابرات الإيطالي. وهنا لم يعد مجرد بطل عادي، بل شخصية تراجيدية انزلقت إلى عالم آخر. وربطت «الحجرية» هذا التحول بمفهوم تفاهة الشر عند حنة آرنت؛ حيث يمارس الإنسان الشر وهو لا يراه كذلك، أو يفعله وهو لا يعرف أنه شرير مشيرة إلى أن البطل خان جماعته، وخان المبادئ، وخان حتى من وثقوا فيه، وكل ذلك بدعوى الحب أو الحماية، وهو ما يجسد الاستلاب الذي قاده إلى دوائر الشر.
وختمت «الحجرية» بأن الكاتب بالغ في تبرير تصرفات البطل، والتبرير الزائد لا يبرئ الشخصية، بل يوحي بالذنب. غير أنها رأت أن الرواية استطاعت أن تصنع بطلًا مفرطًا في عاديته قريبًا من القارئ يشاركه غضبه وفرحه واستمتاعه، وهذا بحد ذاته كافٍ ليمنح النص قيمته قبل أن تطرح سؤالها الأخير: لماذا يعود أبطال الأدب مهزومين من معاركهم بالرغم من أنهم يحققون انتصارات على أرض الواقع؟ وما الذي يموت في داخلهم ولا نراه؟
بين السيرة والتاريخ
وفي ورقة نقدية ثانية أكد الدكتور محروس محمود القللي أستاذ الأدب المقارن والنقد الأدبي المساعد، أن رواية «عُماني في جيش موسوليني» تطرح إشكالية نقدية تتمثل في مسألة الادعاء بالصحة بين الخطاب التاريخي والسير ذاتي، مشيرًا إلى أن مجرد ورود التواريخ في أي نص لا يجعله رواية تاريخية بشكل مباشر موضحًا أن الصفحات الأولى من الرواية لا تحمل سمات الرواية التاريخية بمعناها الكلاسيكي الذي تحدث عنه لوكاتش، فهي أقرب إلى خطاب سير ذاتي؛ إذ إن الرواية التاريخية الحقيقية تتطلب حدثًا كبيرًا أو شخصية كبرى لها حضور بارز في التاريخ؛ ولذلك فإن هذا العمل لا يمكن وضعه بشكل حاسم في خانة الرواية التاريخية.
وأضاف «القللي»: إن الرواية تنقسم إلى شقين: الأول يرتبط بالسرد الواقعي الذي تفرضه الأحداث المتعلقة بالصومال والمقاومة ضد الاحتلال الإيطالي، والثاني يرتبط بالشق السير ذاتي الذي يعكس رحلة خلف وحياته اليومية مؤكدًا أن القيمة النقدية للنص لا تكمن في محاكمته تاريخيًا، بل في دراسة كيفية توظيفه للعناصر التاريخية والمتخيلة داخل البناء الأدبي؛ إذ لا بد من الفصل بين البحث عن الحقائق التاريخية وبين ما يقدمه النص من وقائع متخيلة تصوغ واقعًا أدبيًا مختلفًا؛ فالعمل هنا لا يقدَّم بوصفه مرجعًا للتاريخ، بل باعتباره معالجة تخييلية تضع القارئ في منطقة الالتباس بين الحقيقة والخيال.
وأشار «الباحث» إلى أن الرواية مارست ما سماه الإيهام التاريخي؛ حيث أوحت بعض الشخصيات والأماكن بأنها حقيقية بينما هي من نسج خيال المؤلف. وضرب مثالًا بشخصية زلميرا التي بدت وكأنها شخصية تاريخية فعلية، وحين بحث عنها لم يجدها في المراجع الإيطالية، لكنه وجد اسم زلميرا مرتبطًا بشخصية مختلفة تمامًا في سياق آخر. وهو ما يوضح أن المؤلف اعتمد استراتيجية تقوم على دمج المرجع التاريخي بالخيال لإيهام القارئ بواقعية الأحداث. ورأى أن هذا الأسلوب يمثل أحد أهم إنجازات الرواية لأنها استطاعت أن توظف الخيال في صناعة واقع أدبي مقنع، وجعلت المتلقي يصدق ما يقرأ حتى لو كان متخيّلًا.
ولفت «أستاذ الأدب المقارن والنقد الأدبي المساعد بجامعة السلطان قابوس» إلى أن الجزء الأكثر ارتباطًا بالتاريخ في هذا العمل يتمثل في تناول الصومال والمقاومة الصومالية؛ فذلك الجانب يمثل حقيقة تاريخية مثبتة بينما مسار شخصية خلف يبقى أقرب إلى السيرة الذاتية أو السيرة الغيرية موضحًا أن النص استخدم تقنية السير ذاتي الغيري عبر شخصية أمجد الذي يروي عن خلف، وهذا ما جعل الرواية تمزج بين الواقعية التاريخية والطبيعانية أو الوصفية التي تقترب من السيرة الذاتية مؤكدًا أن خلف لم يذهب إلى الصومال من أجل البطولة، بل من أجل لقمة العيش، وأن تورطه في الأحداث كان نتيجة بساطته وضعفه لا أكثر.
وتوقف «الباحث» عند البنية السردية مشيرًا إلى أن الرواية في بعض أجزائها بدت وكأنها تميل إلى المسرحة؛ حيث جاءت الحوارات سريعة والانتقالات مكثفة وكأن القارئ يتابع عرضًا مسرحيًا، وهو ما أعطى النص حيوية خاصة موضحًا أن هذه الميزة جعلت الرواية أكثر قربًا من ذهن المتلقي؛ لأنها تضعه مباشرة في قلب الحدث. وأوضح أن شخصية خلف ليست شخصية بطولية أو ملحمية كما قد يتوهم القارئ، بل هي شخصية ضعيفة استدرجتها الظروف. فقد وجد نفسه منخرطًا مع المخابرات الإيطالية لا عن وعي بطولي، بل عن هشاشة وفقر. وهذا ما أضفى على الرواية بعدها التراجيدي؛ إذ إن القارئ يتابع شخصية بسيطة تبحث عن الرزق، ثم تتورط في دوائر أكبر منها حتى تعود في النهاية بخفي حنين، وهي صورة إنسانية عميقة تكشف هشاشة الفرد أمام القوى الكبرى.
وختم الدكتور محروس محمود القللي بالتأكيد على أن الرواية لا ينبغي أن تُقرأ باعتبارها وثيقة تاريخية، بل نصًا أدبيًا يوظف التاريخ والمتخيل معًا لصناعة عالم سردي خاص. وأن نجاحها يكمن في قدرتها على الإيهام وعلى جعل القارئ يصدق أنها تعالج حقائق بينما هي في جوهرها معالجة أدبية وفنية موضحًا أن القيمة الحقيقية للنص ليست في تاريخه، بل في أدبه وقدرته على صياغة وعي جديد عند المتلقي؛ إذ جعلت القارئ يرى شخصية خلف بما تحمله من ضعف وتورط وانكسار، لا كرمز للبطولة، بل كمرآة لإنسان عادي تورطه الظروف في مصائر أكبر منه.
وفي الختام أثار النقاش بين الحضور المشاركين أسئلة حول حدود الرواية التاريخية، ومسؤولية الأدب في تمثيل الحقائق، وكيف يمكن لشخصية بسيطة مثل «خلف» أن تتحول إلى مرآة لهشاشة الإنسان في مواجهة قوى أكبر منه، وهو ما جعل الرواية مادة للتأويل والنقد، وموضوعًا حيًا في فضاء السرد العُماني والعربي.
وردًا على إحدى المداخلات من الحضور وُجّهت للكاتب؛ توقف الكاتب ماجد شيخان عند خلفيات تجربته مع شخصية «خلف» موضحًا أن الرواية لم تكن اختلاقًا متخيّلًا بقدر ما كانت استنادًا إلى وجود عُماني حقيقي في تلك المنطقة وفي تلك الحقبة الزمنية.
وقال: إنه يود أن يكشف جانبًا ربما لم يتطرق إليه سابقًا يتمثل في أن شخصية «خلف» كانت جزءًا من ذاكرته الشخصية منذ طفولته؛ فقد التقى بها أول مرة وهو في الحادية عشرة من عمره. أثارت في مخيلته الكثير من التساؤلات التي تراكمت عبر السنين لتشكّل قناعة راسخة لديه بأن هذه الشخصية متفردة واستثنائية تحمل سمات غير مألوفة بين أقرانها، وأن القصص التي سمعها عنه سواء ما بدا منها قابلًا للتصديق أو ما يقترب من الأسطورة عمّقت لديه الإحساس بضرورة تدوين هذه التجربة. وقد وعده في فترة شبابه بأنه سيكتب قصته بطريقة ما، وهو ما تحقق بعد سنوات طويلة؛ إذ كتب الرواية وهو في الثامنة والعشرين من عمره ليحوّل ذاكرة شخصية عاشها في طفولته إلى نص سردي يعيد الاعتبار لهذه التجربة الإنسانية، ويضيئها في سياق أوسع.