اكتشاف القتيل هويَّته
الاحد / 5 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 19:37 - الاحد 28 سبتمبر 2025 19:37
الخميس، 1 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
كنت أتشوق كثيراً للمكالمات الهاتفيَّة الطَّويلة مع حاتم؛ فهي تمتع وتثري خاصة لجهة ثقافته السينمائيَّة الواسعة التي أنهل منها، وكذلك بسبب اتفاقنا حول كثير من الأشياء الفكريَّة والسياسيَّة وغيرها.
لكني أكتشف الليلة أن حتى هذا لم يعد يدفعني كثيراً لرغبة في الحديث الطويل (سواء مع حاتم أو غيره)؛ فأصبحت أريد أن أنهي المكالمات بسرعة حتى وإن كان موضوع الكلام نصَّاً، أو كاتباً، أو سينمائيَّاً جديداً نتعرف إليه في بهجة الاكتشاف، خاصة وأن حاتم (على وجه الخصوص) يطنب ويسهب كثيراً فيما هو معروف، ومحسوم، ومفروغ منه؛ بحيث إنه يتوقع منك، في صمتك الضَّجر والدَّمث، أن تكون كل جوارحك مستسلمة لاندلاقاته المتدفقة حول أن سينما الموجة الجديدة الفرنسية أفضل بكثير من سينما هوليوود، مثلاً.
ربما ينبغي مني أن أقرأ، وأكتب، وأشاهد أفلاماً فقط، بما أني لا أقدر أو لا أحسن الحديث عن قراءاتي ومشاهداتي. إن لم تقدر فإن عليك أن تصمت. وها هي إرادة الصمت تطلُّ حتى مع عزاء كبير في هذه الحياة مثل حاتم.
الأحد، 4 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
لا فائدة. لا فائدة.
الإثنين، 5 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
يأس وضجر عارمان من كافكا، والسِّينما، وسارتر، والجامعة، وهذه المدينة، وكل شيء.
لم تعد تطيق كذباتك الملوَّنة عليك، وحتى وهم أنك ستكتب شيئاً في يوم ما لم يعد قادراً على تضليلك.
ماذا بوسعك أن تفعل وأنت ترى العجز التام هذا؟
عجز؟! لا! لا بد أن تكون هناك كلمة أخرى لوصف هذا، كل هذا.
الجمعة، 9 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
تتساءل الليلة عن احتراقاتك: أهي بسبب الحب أم بسبب المقت؟ تتفكر في أنه، في حالتك، يصعب التَّمييز حين تترمَّد الشُّموس في الضَّباب؛ حين يقف الزمن، ويتمدد، ويدور، ويدور.
لكن مأزقك ليس مع الذَّاكرة بحد ذاتها؛ بل مع الحاضر والقادم باعتبارهما نتاجاً للذَّاكرة التي لفرط ما هي شخصيَّة وذاتيَّة تستوعب الموضوع كلّه في جدل الجرح. وأظن أن هذه مهمَّة أكثر من كونها معطى موضوعياً.
السبت، 10 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
مثل بغل شَبِق يعتلي مؤخرة الطُّوفان ويلهث وهو يلفظ الغابة.
سان دييغو: أيتها القدِّيسة ذات المؤخرة الشَّقراء الأكثر استدارة وروعة في العالم، يا كنيسة الكائنات، أيتها الفضيحة الذهبيَّة.
الإثنين، 12 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
كل ما تكتبه كذب (وأنت تدري أن هذا غير صحيح خارج القسوة الذَّاتيَّة الضروريَّة). في الحقيقة، أنت تريد أن تكتب شيئاً آخر، ولكن لا تعرف كيف. عندما تحاول، تأتي كلمات أخرى تنصاع لها وترضى بها، غير أنك دوماً تريد أن تقول ذلك الشيء الآخر. أبداً تريد، وأبداً لا تعرف. أبداً رغبة ناقصة وبوح مشروخ.
أنت الآن لم تكن تريد أن تقول ذلك، بل كنت تريد أن تقول شيئاً آخر. لكن هكذا شاءت الكلمات، ومن جديد استعصى ذلك الشيء الآخر الذي هو الأكثر جوهريَّة وحضوراً في حياتك حتى بالمعنى اليومي للكلمة.
ذلك الشيء الآخر لم تستطع أن تقوله أبداً، ولن تستطيع؛ فهو أنت الذي يستعصي عليك.
الأربعاء، 14 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
(1)
الفراغ، الفراغ الأخرس.
(2)
الحياة. لا يقي التقيؤ من الغثيان.
الأحد، 18 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
ظهيرة فاجرة.
الإثنين، 19 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
مستحيل، كل شيء مستحيل. نقطة (period)، ونهاية العالم.
الثلاثاء، 20 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
نحلة.
الخميس، 22 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
قُل له يا مصطفى إن ما حدث قبل ليلتين كان محض كابوس وبعض اشتياق. السيَّارة البيضاء التي دهستك، وابتسامتك الأخيرة. بعد ذلك، هنا، في سان دييغو، انفجر صراخ طفل في حلكة الليل. لم يكن ذلك كابوساً. قُل إنك أفقت بعد كابوس، وقُل له ألا يبالغ في ربط حدث النوم بحدث اليقظة.
قُل له يا مصطفى أن يكف عن ذلك.
الجمعة، 23 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
تقول فيزياء اليوم، أقول لفيزياء اليوم: الزَّمن لا يتمدَّد بالحرارة، ولا ينكمش بالبرودة.
السبت، 31 مارس 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
الموت، الموت الدؤوب في التسلُّق.
الأربعاء، 2 مايو 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
وفقاً لنشرة أخبار التلفزيون الليلة، ألقي القبض في لوس أنجيلوس على راهبة (nun) بتهمة الدَّعارة وتحويل الكنيسة إلى مبغى. لكن الرَّاهبة تقول إن الأمر ببساطة ليس كذلك؛ بل إنها كانت تحاول إحياء تقليد مصري قديم (ها هو الاستشراق مجدَّداً) تنام بموجبه الرَّاهبة مع «المذنبين» من أجل «تطهيرهم». ولذلك فإنها «طهَّرت» حتى تاريخ إلقاء القبض عليها حوالي ألفي «مذنب».
مرحى لها، لكن ألف راهبة سيخفقن في تطهير شخص إثمه الفرْج، والرَّحم أيضاً.
الجمعة، 18 مايو 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
الليلة، احتضنت كاتيا للمرة الأخيرة، وأدركت مجدداً الزوال في كل شيء. لن أرى كاتيا بعد الليلة. ستعود غداً إلى فرنسا. أما أنا، ففي كل يوم وليلة، لا أعرف إلى أين يمكن أن أذهب.
الأحد، 20 مايو 1990، سان دييغو، كاليفورنيا:
في هذا الصَّباح، صفَّ مواطن «إسرائيلي» مرتدياً ملابس عسكريَّة مجموعة من العمال العرب العزَّل ورشَّهم. قتل ثمانية وجرح أحد عشر. تظاهر الفلسطينيون في المخيمات، فقتل «جيش الدفاع» سبعة منهم.
الحكام العرب الأشاوس لا يزالوا مختلفين على مكان عقد «قمَّة طارئة». هذه «القمَّة» كغيرها – حتى لو حصلت المعجزة وعُقدت – فإنها لن تنتج عن شيء سوى واحد آخر من تلك البيانات الناريَّة المُضحكة.
لماذا بالانتماء إلى القتلى يبلغ بك شعور هذا المساء إلى «قمَّة» الاكتشاف بأنك عربي؟
«اكتشاف»؟ نعم. هكذا أود أن أضع الأمر: اكتشاف القتيل هويَّته، وكشفه عن هويَّة قاتليه من أعداء وأهل.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عُماني