ثقافة

فيلم "الطائر المكسور".. سيرة غامضة لامرأة تعاني من صدمة الفقدان

فكرة الموت تجسدها شخصيات سوداوية تبحث عن ذاتها

 

تتصل فكرة الجمال في الفيلم بمنظومة بصرية شاملة وبنية سردية متقنة يستطيع صانع الفيلم من خلالها الوصول إلى المشاهد الذي يبقى مشدودا ومتشوّقا للأحداث في نطاق توازن خلاق ومبدع لقوة الصورة.
هذه المعطيات تتطلب مزيدا من التمكن في رسم مسارات الأحداث والقدرة على بث الحبكات الثانوية والكشف عن الشخصيات الأكثر تأثيرا وتعبيرا، ليس بالضرورة تلك الشخصيات النمطية التي فيها مواصفات النجم بل هنالك شخصيات جدلية يتم الاشتغال على بنائها النفسي والعقلي وعلى دوافعها.
من هنا يمكننا النظر إلى هذا الفيلم للمخرجة جوان ميشيل بمشاركة فريق من كتّاب السيناريو قدموا مجتمعين فيلما فيه كثير من عناصر الجودة والاختلاف والتميز، مع انه ليس من نوع الأفلام ذات الإنتاج الضخم والميزانية العالية بل انه ينتمي إلى تلك الأفلام محدودة الميزانية لكن عنصر التميز يكمن في القصة السينمائية والسرد الفيلمي والإدارة الفنية والتمثيل واختيار الشخصيات فضلا عن التصوير والموسيقى والمونتاج.
وكما ذكرنا أن هذا الفيلم ليس من نوع الأفلام المسلية الممتعة بل إن أحداثه مستفزة واستثنائية وفيها كثير من السوداوية والتعقيدات النفسية، والشخصيات تعاني من كثير من الاضطرابات والتحولات وكل ذلك يرتبط ويتشابك مع تعقيدات الواقع نفسه.
ها نحن مع سييبل، تقوم بالدور الممثلة ريبيكا كالدر، وها هي في المشاهد الأولى وهي تقوم بالاستعداد لعملية تحنيط لطائر وكأنها أمام مهمة استثنائية إذ تستعد للعمل بارتداء الزي المناسب الخاص بدخول المختبرات وارتداء القناع الطبي ومباشرة العمل، هذا المدخل البسيط إنما هو محور الصدمة الكبرى التي تعانيها الشخصية والإشكالية التي تنسج من حولها نزعاتها، إنها فكرة الموت والقدر التي يتمحور الفيلم حولها حتى تشعر بوطأة وثقل الأحداث وسوداويتها وتكاد تنسحب من المشاهدة وإذا الأحداث تنقلب رأسا على عقب.
فكرة الفقدان والموت والقدر تتغلف بالفكر والفلسفة والشعر الذي تعشقه سيبيل، تعيش أجواء الشعر وتتفاعل معه وتكتب الشعر ولكنها لا تقرأ شيئا منه قط.
وفكرة الفقدان ذاتها تعود إلى حادث اصطدام مروع ينهي حياة أسرتها وهي صغيرة وتبقى أصداء تلك الفاجعة تحفر في ذاتها وتحولها إلى إنسانة لا تعيش الواقع بل تعاكسه وتتصادم معه ولا يوجد بالنسبة لها ما هو مستحيل ولهذا تمضي مع فكرة الصدمة والتداعيات النفسية للألم لتعمل لدى متعهد لإعداد الجنائز وتبدع هي في عملها، وها هو توماس، يقوم بالدور جيمس فليت، يمعن هو الآخر في التعبير عن فكرة الأزمة والصدمة بعد فقدان زوجته ليدير ذلك المكان الغريب الذي يشبه متحفا مغلقا يقوم فيه بإعداد جنائز الموتى، لكن ماذا لو انحرف باتجاه انتزاع أعضاء بعض من أولئك الموتى في نطاق تجارة الأعضاء؟.
من جهة أخرى تتشابك فكرة الحب والعاطفة في وسط قتامة المشهد وكل ذلك من وجهة نظر ورؤية سيبيل التي سوف تترك العمل في تجهيز الجنائز، مما يشكل صدمة لدى توماس الذي بدأ يشعر أنها سدت فراغ موت زوجته كما أن تركها للعمل يعرضه إلى خطر إفشاء ممارساته لتجارة الأعضاء وعلى نفس المسار هنالك العاطفة المشوشة التي تربط سيبيل مع موظف المتحف الجنائزي الروماني وما يليها من صدمة بعدما تعلم بارتباطه بفتاة أخرى.
شغل الفيلم اهتمام الكثير من النقاد وفي هذا الصدد كتب الناقد كيري أوشيا في موقع رابد بيرسبيكتيف: ' يبدأ الفيلم بسيطًا وواقعيا، ولكن سرعان ما يتحول إلى عمل أكثر تعقيدا ورمزية مع وجود جانب مخفي في الشخصية الرئيسية سيبيل، ثم يزداد الفيلم روعة وتشويقا، ليصبح عملا فنيا رائعا من نوع الرعب، يتناول نظرة المجتمع الحديث نحو الموت والحزن.
إشراكنا في تفكير سيبيل سوف يوصلنا إلى فهم ذلك الإحساس المتفاقم بالفقدان، وهو ما يوصل الفيلم إلى نهاية مؤثرة للغاية، بل ومثيرة للدهشة، حيث يصل التوتر إلى ذروته'.
أما الناقدة بيكا جونسون في موقع فيلم فوكس فتقول: 'يستخدم الكاتبان جوآن ميتشل ودومينيك برانت أسلوب سرد رائع في قصة الرعب هذه. فمع تقدم أحداث القصة، يتم الكشف تدريجيًا عن بعض المعلومات والإشارات، مما يبقي المشاهدين في حالة توتر، وصولًا إلى ذروة مثيرة للاهتمام، لا تؤكد فقط مخاوفنا، بل تتجاوز توقعاتنا. يتمكن الفيلم من جذب انتباه المشاهدين من خلال تطوير شخصيتين بأسلوبين مختلفين، ثم الكشف تدريجيا عن العلاقة بينهما، مما يضيف عنصرا مثيرا من التشويق. ويتميز الفيلم بتطوير متوازن للأحداث، سواء في القصة الرئيسية أو في عناصر الرعب، مما يجعل المشاهدين متشوقين لمعرفة المزيد. يبدو الفيلم في البداية وكأنه فيلم تشويق عادي يعتمد على الشخصيات، لكنه يتحول تدريجيا إلى فيلم رعب صادم، مع استخدام مؤثرات بصرية فعّالة، مما يضفي عليه جوا من الإثارة. لا تدع إيقاع الفيلم البطيء يزعجك، ففيه ما يكفي لإبقاء المشاهدين منشغلين طوال الوقت'.
في موازاة ذلك هنالك قصة جدلية مكملة لتلك السوداوية والقتامة ومشاعر الإحباط، وتتمثل في الحياة اليومية للشرطية سارة - تقوم بالدور الممثلة ساشريزا كلاكستون، فهي في شبه حالة انفصال عن الواقع وهي الحالة التي يشخصها مديرها وكونها تلجأ لتعاطي الكحول بشكل مستمر وكل ذلك بسبب فقدان طفلها الذي بعد أن مات تم اختطافه من مكان إعداد الجنائز لغرض الدفن، وهنا سوف نتساءل للوهلة الأولى يا ترى لماذا تم زج قصة الشرطية في الأحداث وما علاقتها بسيبيل ولكن ومع تواتر الأحداث سوف تتكشف خيوط جرائم غامضة يكون مكانها هو حيث يتم تجهيز الجنائز وكيف سوف تتحول سيبيل بالتدريج إلى صورة القاتل المتسلسل يحث إن بمستطاعها خطف أي أحد صغيرا أو كبيرا وإخفائه.
يتميز الفيلم بأجواء فريدة ومميزة، تبدو واضحة منذ المشاهد الأولى، حيث يضع الفيلم المشاهدين في كل مرة في مكان غريب ومخيف، مع شخصية رئيسية غامضة، مما يجعل المشاهد يشعر أن هناك شيئا ما غير طبيعي والتفاعل مع شخصيات غير طبيعية، حتى قبل معرفة التفاصيل.
قد يبدو الفيلم في بعض الأحيان غير متماسك، خاصة عندما تتشعب الأحداث باتجاه مكان إعداد الجنائز ويوميات الشرطية، حيث قد يصعب على المشاهد فهم أحداثه لكن بمرور الوقت سوف تتجلى الحقيقة الصادمة، ومن جهة أخرى فإن إيقاعه البطيء قد لا يناسب جميع المشاهدين، ولا سيما محبي أفلام الرعب ذات الإيقاع المتسارع. مع ذلك، وببعض الصبر والتركيز، يتحول هذا الفيلم إلى عمل فني متميز.
................
إخراج/ جوان ميشيل
قصة/ تريسي شيلز
سيناريو/ دومينيك برانت، جوان ميشيل، تريسي شيلز
تمثيل/ ريبيكا كالدر في دور سيبيل، جاي تايلور في دور مارك، جيمس فليت في دور توماس
مدير التصوير / ايجور ماروفيتش