أطفال غزة.. طفولة مسروقة وسط النار والمجاعة د.حكمت المصري
السبت / 4 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 21:28 - السبت 27 سبتمبر 2025 21:28
داخل مخيمات الإيواء والمدارس المتهالكة، تتكدّس عشرات آلاف العائلات في بيئة مكتظة، بلا مياه نظيفة أو مرافق صحية، محاطين بالنفايات والأمراض. في هذا المكان، تتحول الحياة اليومية للأطفال إلى رحلة نجاة محفوفة بالخوف والحرمان،حيث يختفي اللعب ويغيب الضحك، لتحل محلهما صرخات الليل والكوابيس وأصوات
الانفجارات.
ولاء محمد (38 عاماً)، أم لستة أطفال نزحت من شمال غزة إلى غرب المدينة، تعجزعن النزوح جنوباً بعد التهديدات الإسرائيلية باجتياح المدينة، بسبب عدم قدرتهاعلى دفع تكاليف النزوح الباهظة. تقول بحزن عميق: 'لا أعرف طعم النوم. ابنتي إيلياء (7 سنوات) تصحو ليلاً على أصوات القصف، صراخها لا ينتهي. تعيش نهارها
في خوف مرضي، لم تعد تلعب ولا تتحدث كثيراً. لا بيت، لا أمان، لا علاج، فقط انتظار الموت في أي لحظة. أشعر أننا محاصرون بالنار من كل الجهات. أطفالي لا ينامون، يركضون مذعورين مع كل انفجار، حتى صارت حياتنا كلها ترقب وخوف.'
أما هبة سمير (29 عاماً)، فقصتها ليست أفضل حالاً. بعد أن فقدت بيتها، تعيش اليوم مع أطفالها الثلاثة في خيمة مهترئة بمواصي خان يونس. ابنها سالم (11عاماً) لا يكفّ عن السؤال: 'وين نروح؟ متى أرجع على المدرسة؟ متى ستنتهي الحرب؟' - للعام الثالث على التوالي، يُحرم من التعليم. تقول والدته بأسى:'أشعر أنني فشلت كأم في حماية أبنائي وتوفير سبل العيش الكريم لهم، لكن الحرب أقوى منا جميعاً.'
أما حزامه إبراهيم (37 عاماً)، فقد فقدت زوجها تحت ركام منزلها ونزحت مع طفلها إلى منطقة الزوايدة وسط القطاع. محمد (5 سنوات) لا يتوقف عن السؤال عن والده ويرتعب من أي صوت مرتفع. تروي حزامه بصوت مخنوق بالدموع:'طفولته ضاعت، وأنا عاجزة عن حمايته في ظل الحرب والمجاعة والنزوح المستمر
والوضع الاقتصادي الصعب.'
مدينة الطفولة المفقودة
الأطفال يشكلون نصف سكان قطاع غزة البالغ عددهم نحو 2.2 مليون نسمة، حيث يُقدَّر أن حوالي 750 ألف طفل تحت سن العاشرة. غير أن المدينة التي كان يُفترض أن تُعرف بـ'مدينة الأطفال'، تحولت إلى واحدة من أكثر بقاع الأرض قسوة على
الطفولة.
بدلاً من الحدائق والملاهي، صارت غزة أكبر مدينة في العالم للأطفال مبتوري الأطراف وضحايا الحروب، بعدما حوّلها العدوان المتكرر إلى مكان يفيض بالقبوروالدماء والدمار والتشرد.
ووفق مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فإن نحو 70% من ضحايا الحرب الأخيرة في غزة هم من الأطفال وأمهاتهم، ما يكشف حجم الاستهداف المباشر للنسيج الأسري والجيل الصاعد.
أما تقرير منظمة أنقذوا الأطفال البريطانية الصادر عام 2022، فقد دقّ ناقوس الخطر بشأن الوضع النفسي لأطفال القطاع، مؤكداً أن:
80% من الأطفال يعانون من أعراض الاكتئاب والحزن والخوف.
كثيرون يعيشون في حالة دائمة من القلق والترقب لجولات جديدة من الصراع.
يعجزون عن النوم والتركيز، ويشعرون بأن حياتهم محاصرة بالخوف واليأس.
وفي تصريح خاص للمنظمة، قالت المديرة الإقليمية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا:'الأطفال في غزة لا يعيشون طفولتهم، بل يكبرون أسرع مما ينبغي وسط الحرب والفقدان. هذه ليست بيئة طبيعية لأي طفل.'
جيل ينشأ في صدمة جماعية
من جانبه، يوضح د. ناهض سالم، أخصائي الطب النفسي للأطفال في غزة، أن تداعيات الحرب على الصحة النفسية ستكون طويلة الأمد: 'الأطفال هنا يعانون من كوابيس ليلية، خوف ورعب، فقدان القدرة على التركيز، التبول اللاإرادي، وأعراض اضطراب
ما بعد الصدمة. نحن نتحدث عن جيل كامل ينشأ وسط صدمة جماعية مستمرة.'
ويشير د. سالم إلى أن الحرب لم تدمّر المباني والبنية التحتية فحسب، بلاستهدفت أيضاً جيلاً كاملاً وذاكرة جمعية. فطفل وُلد عام 2007، العام الذي فُرض فيه الحصار، يبلغ اليوم 17 عاماً وقد عاش خلال حياته القصيرة ستة حروب متتالية، في ظل حصار خانق وانعدام أبسط مقومات الحياة.
أما الخبير النفسي د. درداح الشاعر، فقد حذر من أن أطفال غزة يواجهون خطراً مركباً يتجاوز القصف والجوع والتعطيش، قائلاً: 'الطفل الذي يعيش الحرب والنزوح المستمر مهدد بالقلق المزمن، والاكتئاب، واضطرابات ما بعد الصدمة. إنقاذ هذا الجيل يحتاج إلى تدخل عاجل، لا إلى خطابات فارغة.'
لم تسلب الحرب أطفال غزة ألعابهم فقط، بل سرقت منهم الحق في الأمان والتعليم والحلم بالمستقبل. صاروا وجهاً لوجه مع المجهول، بلا سند ولا حماية، بينما يتجاهل العالم صرخاتهم. هؤلاء الأطفال لا يعيشون أزمة عابرة، بل مأساة متجددة تُكتب كل يوم بدموعهم وخوفهم وصمتهم الثقيل.
ويبقى السؤال المفتوح: إلى متى سيظل أطفال غزة أسرى دوامة الموت والخوف؟ وأي مسؤولية يتحمّلها العالم أمام جريمة تُرتكب بحق الطفولة جهاراً، وعلى مرأى ومسمع الجميع؟