أعمدة

«قفزة في الفراغ»

يقول صديقنا العزيز: إنه بات على ثقة تامة، أن خروجه من عنق زجاجة الحاجة، وما يسببه هُزال الراتب من متاعب جمْة بات وشيكًا، لكن ذلك لن يحدث دون الدخول في استثمار جديد، فقد أرهقته النكسات المتوالية وسوء الطالع.

راودته أفكار مختلفة، فانتقى بثقة هذه المرة فكرة ما يُعرف بـ«التداول الرقمي». يتردد أن هذا النوع من التداول، غيّر حياة الكثيرين، وقلب أحوالهم المالية البائسة رأسًا على عقِب.

صديقنا لا يعرفُ من التداول، سوى ما يخص الأوراق المالية ذلك الذي ازدهر في التسعينيات بين ردهات ما كان يُعرف حينها بـ«سوق مسقط للأوراق المالية» الذي فرخ مليونيرات و«هوامير» كُبار بين ليلة وضحاها.

قرر بصفاء نية أن يطرق باب هذا العالم، استعان بقرضٍ جديدٍ، مستفيدًا من فرصته الأخيرة التي يتيحها البنك لمتقاعد كبير السن، ولماذا البنك؟ لأنه الصديق الكتوم والمخلص الذي لا يعرف الخذلان، ولا يطالب بتفسيرات، ولن يواجهه في طريق فيُضطر إلى تغيير مساره خجلًا.

بعد أقل من يومين، كانت 10 آلاف ريال عماني في حسابه، إنها المرة الأولى التي يوجد فيها مبلغ كهذا في حساب غالبًا ما تسكنه الأصفار منذ تاريخ 3 من الشهر الجديد. اتصل مُتحمسًا بصديق طرح عليه فكرة التداول، قبل أن يتسرب المبلغ من بين يديه، طلب منه التوسط لدى المتداوِل ذائع الصيت، التقى الرجلان في أحد مقاهي «القرم»، قدم المتداوِل شرحًا وافيًا عن عملياته التي بدت للصاحب غارقة في الغموض، لم يستوعب الكثير مما قيل، لكنه فهِم أخيرًا، أن التداول سيكون في ميدان العملة الرقمية المُشفرة «البيتكوين». إنها المرة الأولى التي يسمع فيها بعُملة «مُشفرة» لكنه يجزم أنها ستكون تجربة رائعة، تحقق الكسب دون عناء، مبلغ يأتيه نهاية كل شهر وهو يتناول كوب شاي ، أو مستلقٍ على الأريكة.

قرر كعادته ألا يطرح الكثير من الأسئلة، حتى تحذيرات الجهات المتخصصة في الأمن المالي لم يكن يأخذها مأخذ الجد، كما فسر سر سقوط البعض بين يدي شبكات المحتالين بأنهم لم يعتمدوا على متداولين ثقاة، تناول هاتفه النقال وحوّل المبلع كاملًا، إلى حساب المتداول، فعاد حسابه إلى حالته الصفرية. نشوة غامضة كانت تجتاحه وهو يضغط على علامة «تم» في برنامج التحويل البنكي، حتى أنساه الشيطان طلب كتابة صك شرعي، أو ورقة رسمية تحفظ حقه، ولأن المثل يقول: «الناس تترابط بالكلام ما بالحبال». بعد انقضاء ثلاثة أشهر بالتمام والكمال، ذاب المتداول كفص ملح في ماء، أغلق هواتفه، أحس أنه قفز بلا بصيرة في الفراغ، قرر أن ينطلق في رحلة بحث عن شخص تبين أنه لا يعرف إلا اسمه.

أخيرًا تمكن من تدوين اسمه بين «المُغرر بهم» من الذين ضاقت بهم قائمة المحامي، صحيح أنه لا يحتكم على مستندات رسمية تضمن له استرداد حقه، لكنه يملك سلاح الدعاء في غسق الليل والتحسب، لدى من حرّم الظلم على نفسه، وجعله بين الناس مُحرمًا.

لم يأت على ذِكر ما حدث له أمام أحد اتقاءً للفضيحة ولم يشتك لمخلوق فـ«الشكوى لغير الله مذلة» بل جأر بالدعاء لله سبحانه من أعماق أعماق قلبه، أن يخسف بالمتداول المُحتال «المكار» «الغدار» الأرض، وأن يذيقه الإحساس بالمهانة وذل السؤال، وأن يُقيض له من البشر من النابهين الفطنين من هو أكثر شرًا منه ليقتص منه «والله المستعان».

النقطة الأخيرة ..

لكلّ داءٍ دواءُ يُستَطبُ بهِ

إلا الحماقةَ أعيَت من يُداويها

(المُتنبي)

عُمر العبري كاتب عُماني