أفكار وآراء

كم يبعد الغد الفلسطيني؟

وسط حل الدولتين الذي يبدو مقدمة للغد الفلسطيني المأمول، سواء اختلفنا أم اتفقنا مع فرص بقائه، خاصة مع وجود إسرائيل بعتادها وتسليحها الذي يتهدد كل كيان يجاورها، أو حتى لا يجاورها كما شهدنا هذا العام، وبخطاب رئيس حكومتها الأخير في قاعة الأمم المتحدة شبه الخاوية والذي يعيد العزف على الإرهاب، متجاهلًا كونه مطلوبًا دوليًا بجرائم حرب؛ وسط كل ذلك فقد غدا من المؤكد أن إسرائيل بدأت تدخل عزلتها الاختيارية، أو الاضطرارية إن شئنا، ليس فحسب من مشهد القاعة الخالية في الأمم المتحدة لحظة إلقاء نتنياهو كلمته، بل من اعترافه الشخصي قبلها في القدس، كما يورده توماس فريدمان في مقاله المترجم في هذه الجريدة نهاية الأسبوع الماضي، هكذا رغم النافذة الأمريكية المفتوحة تدخل إسرائيل عزلتها الدولية، وتسعى حكومة بنيامين نتنياهو إثر هذه العزلة المتحققة لتهيئة الأوضاع الداخلية الإسرائيلية من أجل مستقبل أكثر عزلة، وأكثر قلقًا وخشية لمواطنيها بالتالي، وما ذلك إلا تأكيد على أن إسرائيل ماضية في طريقها الذي اختارته، ولا يعنيها انعزالها عن العالم، وقد يرى بعض المحللين كفريدمان في مقاله المذكور أنما ذلك نتيجة حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف، أما برأينا فإن المسألة ليست مسألة تطرف مؤقت، سيتغير في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، التي تفصلنا عنها سنة كاملة. 

إن الأحداث الموثقة طوال السبعة والسبعين عامًا الماضية تثبت أن حكومة إسرائيل الحالية ليست وجهًا جديدًا لإسرائيل تبرزه العناصر اليمينية المتطرفة في الحكومة، بل هو نتيجة طبيعية للسياسات الإسرائيلية العنصرية منذ نشوئها، وما تعلنه الأحزاب المتطرفة في تحالفها المتحقق في الحكومة الحالية ليس أكثر من جوهر الدعوة الصهيونية نفسها، وهو الجوهر الذي قاد السياسات الإسرائيلية العنصرية تجاه الفلسطينيين طوال العقود الماضية، حتى أوصلتها اليوم لحرب الإبادة العلنية هذه، لكنها ليست الأولى، وإنما هي سلسلة متواصلة منذ مذبحة الطنطورة ودير ياسين والبلح وصبرا وشاتيلا وغيرها، والواقع أن أي نظام عنصري قومي يسعى لسلب الأرض بالتحايل والقوة والادعاءات الكاذبة عاجز عن إنتاج صيغة أخرى لوجوده غير التطرف، ببساطة لأن التطرف هو حاضنته الطبيعية. 

وبينما يستمر نزوح أهل غزة المحاصرين هربًا من جرائم الجيش الإسرائيلي، ويستمر سقوط الضحايا الأبرياء يوميًا، عاد الحديث مجددًا عن مخرج لحرب غزة، ويبدو أن فكرة (ريفييرا غزة) التي نطق بها ترامب أصبحت هي المخرج المطروح على الطاولة، بما في ذلك مشروع توني بلير الغامض القادم لقطاع غزة، والذي يسعى لإدارة دولية وعربية تتولى القطاع لأربعة أعوام تحت رئاسة توني بلير نفسه، وكل تلك المخارج لا تبدو غير مسعى لمحو الخراب والدمار وساحة الجريمة الإسرائيلية بإنشاء متنزهات ومقاصد سياحية للأثرياء، فوق أنقاض وعظام الفقراء الأبرياء المجوّعين المبادين، وهو تصور لا يعبر إلا عن الغرور المادي الرأسمالي الذي يبيح لنفسه كل شيء بما في ذلك مسح الجريمة بالمال، لكن أي مال يرغب اليوم أن يرتبط اسمه بمسح جريمة معاصرة بهذا الحجم والعلانية والإشهار حتى غدت سمة ووصمة من وصمات التاريخ الإنساني لهذا القرن؟ والواقع أن ذلك سيطرح بالعكس باسم مساعدة الضحايا والمنكوبين. 

إن المخرج الطبيعي العادل والحقيقي وهو العدالة والحقوق والحرية، ولا يمكن البحث عن نهاية عادلة عبر تجاوز الضحايا والسماح للمجرمين بالإفلات من العقاب، بل يستوجب مقاضاة كل المجرمين ومراجعة القوانين والنظم التي سمحت بهذه الجريمة البشعة أمام أعين الإنسانية ووسط النداءات والمطالبات الدولية التي لم تكف طوال عامين كاملين، كل الفظائع والمخازي التي ارتكبت يجب أن توثق، ولا بد من تخليد ذكرى الضحايا بأسمائهم الشخصية، كل الأسر والعوائل التي أبيدت عن بكرة أبيها في فرن الكراهية والتطرف الذي ظن في لحظة غطرسته وعماه أن بمقدوره العبث بحياة الإنسانية دون رادع. 

لا بد من توثيق كل الممارسات الوحشية، وكل أحداث مسلسل الجريمة البطيء الطويل الذي عرّضت فيه إسرائيل الجسد البشري الفلسطيني البريء لصنوف الإذلال والإهانة والدفن تحت الركام من أطفاله ونسائه ورجاله وشيوخه وعجائزه، كل ذلك يجب أن يبقى حيًا وماثلًا كإدانة، ولا بد من متحف حي للرضّع الذين قتلوا بدم بارد في أقسام المستشفيات، والمؤسسات المدنية التي سويّت بالأرض من جامعات ومستشفيات وغيرها، ومن توثيق للاستهداف المتعمّد للصحفيين، والأكاديميين، والفنانين، والموهوبين في كل جانب، ولا بد من فضح كل المخطط الإجرامي الذي سعى لنزع روح الحياة من الغزاويين، وسعى لدفن مواهبهم وفنونهم ومهاراتهم، ونصب المصائد لهم عند نقاط توزيع الغذاء، كل ذلك يجب أن يعرّى كاملًا، وبلا أي نقص إن شئنا مخرجًا لهذه الحفرة والهاوية المعاصرة التي حفرتها إسرائيل بنفسها لنفسها، والمعرض الفني للفنانين الغزّاويين الذي يجوب متاحف أوروبا وأمريكا اليوم يجب أن يعود ويستقر في غزة، هو وكل الصور الفوتوغرافية الصحفية التي كشفت وفضحت للعالم حدود الجريمة. 

لقد تحولت غزة وسط هذا الدمار وهذا الخراب وحرب الإبادة إلى أيقونة معاصرة للحرية، وبالمأساة الإنسانية التي تجسدت على أرضها إنما كانت تشكل سؤالًا حادًا عن الوجود الإنساني، منذ اللحظة التي سمح فيها الجيش الإسرائيلي لنفسه باستهداف وملاحقة مليوني مدني، غير عملياته التدميرية في الضفة، والتي لم تكن غير ردة فعل هوجاء حمقاء، فبأي منطق يمكن قبول ما حدث وكأنه عملية عسكرية لإنقاذ رهائن أو للقبض على منفذي عملية؟ بينما أرقام الضحايا بلغت قرابة الخمسة والستين ألفا؟ 

إن غزة وفلسطين المعاصرة وجدت نفسها قسرًا في مخاض مشروع تحرير الإنسانية المعاصرة من ظلاميتها وفقرها وكوابيسها الشيطانية، وهذا الحصار الإسرائيلي الطويل للقطاع وسكانه، إلى حدود التجويع والقتل والإبادة أصبح أيقونة حية، ومأزقًا لإنسانية طبيعية تسعى وتجاهد بكل سبيل لتحقيق وجودها الطبيعي، ولتجسيد السعي الفطري للإنسان لأبسط معاني حريته وحقوقه ووجوده، وللصعود فوق العقبات الضيقة التي ظل النظام الإسرائيلي بعنصريته يحاول زج الفلسطيني فيها رغمًا عنه، عبر التواطؤ الدولي، وهو التواطؤ الذي بدأ اليوم بالعكس في عزل إسرائيل نفسه وحصارها. 

لقد كان السؤال المتكرر طوال الوقت هو ما الذي سنبرئ به أنفسنا أمام الأجيال القادمة حين تسألنا ماذا فعلنا لنوقف المذبحة والإبادة؟ وهذا السؤال هو تعبير عن الوعي الإنساني العام الذي يسكننا، وعي الإنسان بإنسانيته، ذلك أن ما أهدر في غزة، وفي فلسطين، لم يكن شيئًا آخر غير الإنسان وإنسانيته، فإذا كان ممكنًا في عصرنا هذا أن يباد أكثر البشر مجانًا من أجل تلبية دعوات التطرف والكراهية، فإنما نكون أمام هدر لقيمة الإنسان، كل وأي إنسان على هذا الكوكب اليوم، وليس هذا ما سعى ويسعى إليه من عملوا وما زالوا يعملون لخدمة الإنسانية؛ لأن ذلك معناه انحطاط قيمة الإنسانية، وعبثية القيمة التي نربطها بالفرد ومن ثم الجماعة، ولذلك يجب الوقوف ضد الجريمة دون تسامح؛ لأن سقوط الأخلاق والمبادئ والقوانين يعني بالمحصلة عبثية السعي الإنساني برمته، فما يتحرر اليوم تدريجيًا عبر حرية فلسطين المستقبل إنما هو أخلاق الإنسانية المعاصرة ومبادئها كلها، وما يسعى كل المؤيدين لحرية فلسطين والفلسطينيين وحقوقهم إليه إنما هو الحفاظ على الكرامة الإنسانية بأسرها. 

إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني