العرب يتحركون أخيرا ضد إسرائيل
السبت / 4 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 20:19 - السبت 27 سبتمبر 2025 20:19
ديفيد هيرست
ترجمة - بدر بن خميس الظفري
قبل أن ينطلق في مهمة انتحارية لإطلاق النار على جنود إسرائيليين عند جسر الملك حسين (المعبر الرئيسي بين إسرائيل والأردن) كتب عبد المطلب القيسي وصيته جاء فيها: «يا أبناء أمتي إلى متى سنظل صامتين على من يحتلون الأرض؟ هل سنبقى صامتين حتى يصلوا إلى أرضنا وينتهكوا مقدساتنا»؟
القيسي، وقبله ماهر الجازي، وهو أردني آخر هاجم القوات الإسرائيلية عند المعبر الحدودي مطلع هذا الشهر ليسا فلسطينيين. إنهما من الضفة الشرقية. كانت رسالته إلى «الأحرار الشرفاء في كل مكان، وخاصة إخوتنا من العشائر العربية في بلاد الشام: الأردن، فلسطين، سوريا، ولبنان». ومفادها: إن ما يحدث في غزة سيتكرر في الدول العربية. صمتنا تواطؤ. وإن لم نفعل شيئًا فإن «إسرائيل الكبرى» ستصل إلينا.
إذا كانت هذه الرسالة تعبر -كما أعتقد- عن مزاج يتجاوز أطراف عمّان حيث كُتبت فإن إسرائيل ترتكب خطأ تاريخيًا فادحًا في تقدير الموقف.
إسرائيل: الخطر الوجودي
الخطاب المتكرر لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير ماليته بتسلئيل سموتريتش الحاكم الفعلي للضفة الغربية المحتلة بأن إسرائيل ستكون الدولة الوحيدة غرب نهر الأردن بدأ يجد آذانًا مصغية، ويثير القلق إلى ما هو أبعد من حدود فلسطين.
فالخطر الذي تشكله إسرائيل على المنطقة لا يرتبط بتحالفات أو سياسات أو هويات قبلية أو أديان. فقرابة عامين من الحرب شهدت دمارًا في أجزاء من لبنان وغزة، واحتلالًا لجنوب سوريا فيما نفذت الطائرات الإسرائيلية عمليات اغتيال طالت أحمد غالب ناصر الرحوي رئيس وزراء اليمن، وقادة عسكريين كبارًا في إيران. إذن إسرائيل لم تعد خطرًا وجوديًا على الفلسطينيين فحسب، بل على جميع دول المنطقة.
جرّب التفاوض مع إسرائيل، وستستهدف طائراتها فرق التفاوض، كما فعلت مرتين: حين قصفت إيران قبل محادثات كان من المقرر أن تُعقد في سلطنة عُمان، ثم حين هاجمت فريق التفاوض التابع لحركة حماس في الدوحة. وفي نشوة من الغطرسة، أو بدافع يائس للتشبث بالسلطة بحيث لم يعد أمامه خيار سوى استمرار الحرب؛ يعتقد نتنياهو أنه قادر على فرض حدود إسرائيل الجديدة بالقوة على المنطقة.
ولن تحظى إسرائيل مرة أخرى برئيس أمريكي أكثر تساهلًا من دونالد ترامب؛ فقد سمح لها بالفعل بضم هضبة الجولان المحتلة، واعترف بالقدس عاصمة موحدة لـ«الدولة اليهودية»، وهو الآن يتيح لها تسوية مدينة غزة بالأرض. ولن تنال كذلك إدارة أمريكية أخرى يهيمن عليها بهذا القدر من الأصوليين المسيحيين؛ ففي نفق حُفر تحت منازل الفلسطينيين في سلوان بالقدس الشرقية المحتلة أعلن مايك هاكابي سفير الولايات المتحدة لدى تل أبيب أن القدس هي «العاصمة غير القابلة للتقسيم، وغير القابلة للنزاع، والأصيلة لليهود منذ الأزل».
وقال: «لقد كان هنا في هذه المدينة على جبل المريا قبل 4000 عام حيث اختار الله شعبه. لم يختر شعبًا فحسب، بل اختار مكانًا، ثم اختار لهذا الشعب في هذا المكان هدفًا. كان الشعب هو الشعب اليهودي، والمكان هو إسرائيل، والهدف أن يكونوا نورًا للعالم».
بالنسبة لهاكابي؛ لم تكن هناك مناطق رمادية في هذا الصراع. الأمر بالنسبة له هو معركة بين الخير والشر، وهو يقول: «أنت لا تقف مع إسرائيل لأنك توافق على حكومتها. أنت تقف مع إسرائيل؛ لأنها تقف من أجل تقليد إله إبراهيم». هذه هي اللغة الجنونية التي يتحدث بها رجل يشغل منصب سفير الولايات المتحدة.
حرب دينية
غير أن الجنون ليس مجرد هذيان أصولي إنجيلي، بل قد يكون صافرة البدء لحرب دينية؛ فبسعيه إلى نصر كامل على منطقة مسلمة مهانة يكرر نتنياهو خطأ كثير من قادة الحروب قبله، وعلى رأسهم نابليون وهتلر اللذان هاجما روسيا، وانتهيا إلى الهزيمة.
يظن نتنياهو أن 7.7 مليون يهودي في إسرائيل يمكنهم إخضاع 473 مليون عربي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، و92 مليون إيراني، أو حتى ملياري مسلم في العالم. وهذا هو جوهر ما يقصده نتنياهو باستدعاء صورة «أسبرطة العظمى».
فمع تقدم الحرب لم تعد الحملة العسكرية الإسرائيلية منصبة للقضاء على جماعة مسلحة واحدة هاجمته، بل صارت تزداد تركيزًا على إخماد كل منافسيه الإقليميين، أولًا إيران والآن تركيا.
إن «أسبرطة العظمى» التي يتبناها نتنياهو تتحدى سيادة جميع الدول حديثة كانت أم قديمة، قريبة أم بعيدة عن حدود إسرائيل الجديدة؛ فالخطر الذي تشكله إسرائيل على المنطقة لا يرتبط بتحالفات أو سياسات أو هويات قبلية أو دينية.
عبء سياسي
كانت الإمارات أول دولة توقع «اتفاقات أبراهام» التي اعترفت بإسرائيل، وكان يُفترض أن تكون آخر دولة تتراجع عنها. ومع ذلك فإن النبرة السائدة في أبوظبي هذه الأيام قد تغيرت تجاه إسرائيل. فقد غرّد المستشار السياسي الإماراتي عبد الخالق عبد الله قائلًا: «لأول مرة هناك نقاش جاد (في الإمارات) حول أن الوقت قد حان لتجميد اتفاقات أبراهام. الاتفاق لم يعد أصلًا استراتيجيًا، بل أصبح عبئًا سياسيًا».
ويشهد على ذلك أيضًا خلف أحمد الحبتور مؤسس مجموعة أعمال إماراتية كبرى تدير مركز أبحاث أصدر دراسة حول كيفية الإضرار بالاقتصاد الإسرائيلي بعد قصفه للدوحة. فقد خلصت دراسة مركز الحبتور للأبحاث إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي قد يخسر ما بين 28 و33.5 مليار دولار إذا اتخذ العرب قرارًا موحدًا بإغلاق أجوائهم أمام كل حركة طيران إسرائيلية.
وجاء في الدراسة: «الرسالة بسيطة وواضحة: بقرار موحد واحد لدينا القدرة على إضعاف الاقتصاد الإسرائيلي، وزعزعة ركائزه، وإجبار قادته على إعادة حساباتهم من دون الدخول في دوامة عنف أو إراقة دماء. أدعو صانعي القرار إلى مراجعة هذه الأرقام بعناية: إغلاق الأجواء أمام كل ما يتعلق بإسرائيل، ومراجعة الاستثمارات والمصالح في الدول الداعمة لها، وتفعيل آليات التنسيق الاقتصادي الموحد الذي يضع حماية شعوبنا وسيادتنا فوق كل اعتبار».
لا الرجلان يتحدثان ارتجالًا، ولا أبوظبي مكان للتأملات العفوية في السياسة الخارجية.
والأمر لا يقتصر على الإمارات؛ فخذ مثلًا مصر إحدى أقدم الدول في العالم. ففي القمة الطارئة في الدوحة بعد أسبوع من الهجوم على حماس وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إسرائيل بأنها «العدو»، وهي المرة الأولى التي يستخدم فيها مثل هذا الوصف منذ توليه الحكم عام 2014.
ومنذ أن احتلت القوات الإسرائيلية معبر رفح الحدودي، وسيطرت على ممر فيلادلفيا الفاصل بين غزة ومصر تشهد العلاقات بين إسرائيل وأول دولة عربية اعترفت بها تراجعًا حادًا؛ فخطة نتنياهو لدفع أكثر من مليون فلسطيني جنوبًا نحو سيناء تُعد تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، وقد تضاعف هذا الخوف مع تهديدات إسرائيلية باستهداف قادة من حماس في القاهرة.
وحذّر السيسي الناخبين الإسرائيليين من أن سياسات حكومتهم «تُقوِّض فرص أي اتفاقيات سلام جديدة، وتجهض حتى الاتفاقيات القائمة». وهذه ليست مجرد كلمات؛ فقد اشتكى نتنياهو لترامب من أن الجيش المصري قام بتمديد مدارج الطائرات في سيناء بحيث يمكن استخدامها من قبل الطائرات الحربية، وببناء مخازن تحت الأرض قال المسؤولون الإسرائيليون إنها قد تُستخدم لتخزين صواريخ. ولا يوجد أي دليل على حدوث ذلك، لكن الادعاء وحده يكفي لزيادة التوتر، وكما هو معتاد يُستخدم تمهيدًا لهجوم إسرائيلي محتمل في المستقبل.
إن أي خطة لإفراغ غزة من نصف سكانها لن تنجح من دون مصر. ومع دفع المزيد من الفلسطينيين جنوبًا تزداد سيناء وضوحًا في مرمى أهداف إسرائيل العسكرية.
تهديد الأردن
يدور نقاش مشابه في الأردن ثاني دولة عربية توقع اتفاق سلام مع إسرائيل حول القيمة الراهنة لاتفاق وادي عربة. وهذا النقاش لا يتعلق كثيرًا بإعادة تقييم حركة حماس أو جماعة الإخوان المسلمين التي شنّت المملكة ضدها حملة تضييق مؤخرًا بقدر ما يتعلق بالتهديدات التي تطال استقرار المملكة نفسها.
وكما كتب المعلق الأردني ماهر أبو طير: «لقد أثبتت اتفاقيات أوسلو أنها لم تكن سوى فخ لاستخراج اعتراف بشرعية إسرائيل، وجمع المقاتلين الفلسطينيين من أنحاء العالم، وإخضاعهم لرقابة المحتل. وفي المقابل نتساءل: ماذا عن مصير اتفاق وادي عربة؟ هل يشكل ضمانة للأمن الاستراتيجي والاستقرار في الأردن؟ ومن هم الضامنون أصلًا، ونحن قد رأينا ضامني أوسلو وهم يشاهدونها تُفكك وتُنهى، بل إن الضامنين أنفسهم هم الخونة المحتملون»؟
وبما يعكس ما أصبح رأيًا سائدًا في عمّان بسرعة؛ قال أبو طير: إن الأردن مهدد بطريقتين: الأولى من خلال وصايته على المسجد الأقصى الذي يتعرض لمستوى غير مسبوق من اقتحامات المستوطنين، والثانية عبر الضفة الغربية؛ فقد تفبرك إسرائيل حادثًا أمنيًا على الحدود كذريعة لإعادة احتلال جنوب الأردن.
وأضاف أبو طير أن الأردنيين قلقون جدًا من احتمال أن تدفع إسرائيل نحو نزوح جماعي من الضفة الغربية عبر سحب إقامات مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين ما زالوا يحملون أرقامًا وطنية أردنية تعود إلى فترة ما قبل حرب 1967 حين كانت الضفة جزءًا من المملكة الهاشمية.
أما الاحتمال الثاني بحسبه فهو أن تسعى إسرائيل إلى زعزعة استقرار الدولة نفسها ما يترك حدودها مكشوفة. وفي كلتا الحالتين سيوفَّر المجال المطلوب لإعادة توطين الفلسطينيين المطرودين من الضفة الغربية.
وقد كان نتنياهو واضحًا جدًا في أحدث ردوده على اعتراف بريطانيا وفرنسا ودول أخرى بدولة فلسطين؛ إذ قال: إن إسرائيل يجب ألّا تسمح بقيام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن، أي أن بإمكانها أن تقوم شرق النهر.
تحالفات جديدة
لم يكن القادة العرب في حالة سكون؛ فثمة تحالفات دفاعية تُدرس اليوم بجدية كانت قبل عشر سنوات فقط غير قابلة للتصور.
من كان يتصور أن تقوم السعودية بتوقيع صفقة مع شركة «بايكار» التركية المصنعة للطائرات المسيّرة للحصول على طائرة «أقنجي» الهجومية غير المأهولة في أكبر عقد تصدير دفاعي في تاريخ تركيا؟ واليوم تبدي الرياض اهتمامًا بدبابة «ألتاي» ومنظومات الصواريخ، وبأن تكون شريكًا في مشروع المقاتلة الشبحية «قآن».
ووفق تقرير صادر عن «المجلس الأطلسي»؛ فإن اهتمام الرياض بمقاتلة «قآن» يعود إلى تعثر مساعيها الطويلة لاقتناء طائرات «إف-35» الأمريكية، وهي التقنية التي استخدمتها إسرائيل في قصف إيران، والتي تمنع واشنطن بيعها لأي طرف آخر في المنطقة.
وشهدت العلاقات بين تركيا ومصر ــ الخصمين التقليديين ليس فقط بسبب الخلاف حول الإسلام السياسي والإخوان المسلمين، بل أيضًا بسبب نزاعاتهما البحرية في شرق المتوسط ــ تحسنًا مشابهًا؛ إذ أبدت القاهرة بدورها اهتمامًا بمقاتلة «قآن» كمشارك في إنتاجها فيما يستعد البلدان لإجراء مناورات بحرية مشتركة للمرة الأولى منذ 13 عامًا.
كما أن السعودية تتجه شرقًا في تحالفاتها الدفاعية؛ فالاتفاق الدفاعي المتبادل مع باكستان القوة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي ظل مطروحًا منذ فترة، وقبل وصول رئيس الوزراء الحالي شهباز شريف إلى الحكم. غير أن توقيت الإعلان عن هذا الاتفاق بعد أيام من الهجوم الإسرائيلي على الدوحة حمل رسالة واضحة لا لبس فيها. ومن خلف باكستان تقف الصين، وهو ما لم يمر مرور الكرام في واشنطن.
ثم هناك تركيا نفسها؛ فأنقرة الحذرة بطبيعتها تجد نفسها اليوم في مواجهة مباشرة مع إسرائيل بسبب احتلالها لجنوب سوريا، ولا سيما سدودها. ولم تكتف إسرائيل بذلك، بل نصّبت نفسها «حامية» للدروز في الجنوب وللأكراد في الشمال، وهو ما قد يتعارض في مرحلة ما مع مسار السلام الذي تسعى أنقرة لإرسائه مع حزب العمال الكردستاني. وها هي الآن تُدخل نفسها على خط قبرص أيضًا.
سلمت إسرائيل منظومة الدفاع الجوي باراك إم.إكس إلى قبرص، وهي أكثر فعالية من منظومة «إس-300» الروسية، وقادرة على تتبع القوات الجوية والبرية التركية في شرق المتوسط.
وفي يوليو الماضي دعا شاي غال نائب الرئيس السابق للعلاقات الخارجية في الصناعات الجوية الإسرائيلية المنتجة للمنظومة إلى أن تعيد إسرائيل النظر في مقاربتها تجاه قبرص، وأن تضع خططًا عسكرية لـ«تحرير» شمال الجزيرة من القوات التركية. وكتب غال: «على إسرائيل بالتنسيق مع اليونان وقبرص أن تستعد لعملية طارئة لتحرير شمال الجزيرة».
من فوق الأرض وتحتها تتوالى الإشارات الواضحة على أن المنطقة تستعد لمواجهة الطموحات الهيمنية الإسرائيلية. قد لا يحدث ذلك على الفور، وقد لا يحدث بوتيرة واحدة، لكن الاتجاه بات ظاهرًا. ولقد كانت حالة التشرذم العربي الصخرة التي بُني عليها مشروع إقامة الدولة اليهودية، غير أن من السذاجة الاعتقاد بأن هذا الوضع سيستمر إلى الأبد فيما تتحول «أسبرطة الصغيرة» إلى كيان أكبر فأكبر.
إن إسرائيل تسلك بوضوح طريق التوسع بالقوة الغاشمة، ولا يملك القدرة على وقفها سوى القوة الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية الموحدة للمنطقة.
ديفيد هيرست هو المؤسس المشارك ورئيس تحرير موقع «ميدل إيست آي» عمل سابقًا كاتبًا رئيسا للشؤون الخارجية في صحيفة «الغارديان»، وكان مراسلًا لها في روسيا وأوروبا وبلفاست قبل أن ينتقل إليها من صحيفة «ذا سكوتسمان» حيث عمل مراسلًا.
عن موقع ميدل إيست آي.