ثقافة

مناقشة تحديات إشكاليات التعدد في المجتمع بالنادي الثقافي

 

(عمان): استضاف النادي الثقافي المفكر محمد علي ميرزائي في جلسة حوارية نظمتها 'مجاز' حملت عنوان 'الهوية والانتماء والمواطنة.. رؤية إصلاحية في معالجة إشكاليات التشظي والتعدد' أدارها علوي المشهور.
بدأ ميرزائي حديثه عن النموذج العماني في المنطقة والعالم بقوله: إن من عادتي كمتابع للشؤون الفكرية أن ألتفت إلى النماذج القائمة التي تقدم مقاربات مختلفة لإدارة قضايا الهوية والمواطنة والتنوع الثقافي والاجتماعي. ومن هذا المنطلق، أرى أن في هذا البلد العزيز تجربة خاصة تستحق التقدير والتأمل، موضحا أن المشهد في سلطنة عمان يظهر معالجة عملية لمسائل الهوية والمواطنة بعيدا عن المبالغة أو الخطاب الإنشائي. وأن ما شاهده خلال زياراته لم يكن دعاية مصطنعة، بل ممارسة حقيقية وواقعية.
وأضاف: إن ما يميز التجربة العمانية هو أنها لم تبق حبيسة التنظير أو الشعارات، بل تحولت خلال عقود إلى تجربة عملية قائمة على التعايش داخل مجتمع متعدد ومتنوع، وهذا بحد ذاته إنجاز كبير، لأن التأليف والكتابة قد يكونان أمرين يسيرين، لكن تحويل الأفكار إلى ممارسة مجتمعية مستمرة لعشرات السنين هو التحدي الأكبر.
ورأى أن هذه التجربة تمثل تحفة فلسفية وخبرة عملية، يمكن أن تكون مصدر إلهام يحتذى في معالجة إشكاليات التعددية. ولفت إلى أن دور عمان في تعزيز التقارب الحضاري بالمنطقة فريد من نوعه، معتبرا أنه منقطع النظير، ولا يوجد له مثيل في التجارب الأخرى.
وحول مسألة المواطنة أوضح ميرزائي أن استخدام منهج نقدي تحليلي هو وسيلة لطرح الأسئلة وتفكيك الإشكاليات. وتساءل: هل يمكن للفكرة الدينية، التي يصعب تصور انفصال الإنسان العربي والمسلم عنها، أن تتناقض مع فكرة المواطنة؟ في المقابل، أشار إلى أن بعض الرؤى تتضمن أحيانا روحا إقصائية، ولو كانت بلطف ونعومة، مما يضعف من فاعليتها في بناء مفهوم شامل للمواطنة، مبينا أن المواطنة في جوهرها جزء من مشروع الدولة الوطنية، حيث تقوم الدولة بتقنين القيم وتنظيم العلاقة بين المواطن والدولة والمجتمع. وهنا تبرز الحاجة إلى صيغة اندماجية تجمع بين الفكر الديني والفكر العلماني، لأن العلمانية وحدها تخلو من عناصر التحفيز الإيماني. ففي التجربة الغربية مثلا، يستند الالتزام بالقانون إلى الإلزام القانوني وحده، بينما في الفكر الديني نجد بعدا إضافيا؛ إذ قد يقرر العلماء أن مخالفة قوانين المجتمع تعد حراما شرعا، فيغدو الالتزام بالقانون جزءا من الواجب الديني، فيتعاظم عنصر الإلزام. وأوضح أنه حين يخالف المواطن القانون في الشارع، فإنه في الرؤية الدينية لا يخرق قانون الدولة فحسب، بل يشعر أنه خرق القانون الطبيعي والإلهي أيضا'. فالقوانين الدينية غالبا ما تركز على العبادات، بينما المجتمع يحتاج إلى منظومة قانونية مدنية، ومع ذلك يظل عنصر الإلزام والتحفيز الديني ضروريا لضمان التطبيق الفعلي للقوانين.
ورأى أن ما يميز التجربة العمانية في مسألة المواطنة هو أنها لم تفصل بين الجانب القانوني والجانب الإيماني، بل احتفظت بعناصر التجديد الديني والفقه والإيمان في تعزيز الالتزام بالقوانين. وأشار إلى أن زيارته لجامعة السلطان قابوس وزيارته لسلطنة عمان عموما، أظهرت له نموذجا ثقافيا وإنسانيا يتحقق فيه هذا التوازن.
ثم أوضح أن الموقفين المتطرف سواء الديني التقليدي الذي لا يعترف بالمعادلات الواقعية، والعلماني الذي يتجاهل الأطر الميتافيزيقية كلاهما غير كاف. فهناك حاجة إلى صيغة تدمج بين الفقه والقانون، دون أن يعني ذلك تحويل كل الغايات الإيمانية إلى قوانين، لأن ذلك قد يكون غير ممكن أصلا.
وأضاف أن النقد الذي يطرحه ليس بالضرورة بديلا جاهزا، بل هو أداة للتفكير وتطوير النظرية. فالانتقاد بحد ذاته قيمة، حتى لو لم يتبعه طرح بديل كامل، إذ يكفي أن يحدد مواضع الخلل والإشكالية.
وانتقل ميرزائي إلى فكرة أخرى، متسائلا: هل يمكننا الحديث عن أنسنة المواطنة أو 'تخليقها' كما يطرح بعض المفكرين في المغرب العربي؟ وأوضح أن هذا يتطلب تفعيل عنصر الفطرة الإنسانية في مفهوم المواطنة. ففي التجارب الغربية، يلاحظ غياب عناصر الأخلاق والعقلانية والأنسنة بالمعنى الفطري الإنساني، مما يجعل الإيمان مسألة خاصة جدا. أما في الفقه الإسلامي، فإن حتى أبسط الأفعال كالبسمة في وجه الآخر تعد عبادة، وهو ما يضفي على العلاقات الإنسانية بعدا إيمانيا لا يتوافر في التجارب الغربية.
وأشار إلى أن الفقه يمكن أن يعيد تشكيل هذه الجزئيات الأخلاقية ليجعلها جزءا من فلسفة المواطنة. فعلى سبيل المثال، رمي القمامة في الشارع أو تلويث البيئة يعد فعلا محرما دينيا، وهو ما يربط بين القانون المدني والالتزام الديني في صيغة متكاملة.
مؤكدا على أن تخليد فكرة المواطنة يتطلب إدماج الرؤى الوجودية والإنسانية والميتافيزيقية في تفسيرها، لتصبح المواطنة أكثر عمقا وشمولا. وانتقد التيارات الدينية التي تقف في وجه فكرة المواطنة أو الديمقراطية أو العلمانية بشكل مطلق، مؤكدا أن بالإمكان الجمع بين الطرفين. فالعلمانية في أصلها قامت على استبعاد الدين بعد أن رآها البعض غير فاعلة، لكن التجربة الدينية المتجددة يمكن أن تكون مؤثرة في تعزيز التعايش ونبذ الإقصاء، وهو ما يتطلب علمنة معدلة وفكرا دينيا متجددا في الوقت نفسه، مضيفا أن العناصر الأخلاقية والعلمية والفكرية يجب أن تربط بالسنن الإلهية في الكون، لا بالمنهجيات الفقهية التقليدية فقط، وهذا يفرض على دعاة الفكر الديني صياغة أطر جديدة تعزز المواطنة بدلا من إضعافها. كما أن الفكر العلماني بدوره يعاني من إقصائية، فيما يتسم الفكر الديني أحيانا بالتصلب والأدلجة؛ لذا فإن الحل يكمن في إدماج عناصر الأخلاقية والعقلانية في كلا الجانبين.
وأعاد التأكيد على أن التجربة العمانية واجهت بوضوح الأفكار المريضة التي تؤدي إلى إثارة مذهبية أو دينية ضيقة تقود إلى الانشقاق والانفصال، فوضعت حدودا لهذه التصرفات بما يحافظ على التعايش والمواطنة، مبينا أن عناصر الهوية متعددة؛ فقد يكون الإنسان مثلا إيرانيا، وإسلاميا، وفارسيا في لغته، وغير ذلك من الأبعاد. وهذه العناصر لا تشكل خطرا إذا انسجمت في وحدة اجتماعية وفكرية، أما إذا لم تتناغم فإنها قد تتحول إلى مصدر للتشظي والانقسام.
وأشار إلى أن الفرد قد يستند في موقف ما إلى قوميته فيدعو إلى اتجاه محدد، بينما يعود في موقف آخر إلى مرجعيته الأخلاقية فيشعر بثقل المسؤولية، أو يستند إلى وطنيته فيلتزم بقوانين الدولة. وهنا تتجلى أهمية إدراك أن الالتزام بالقانون ليس مجرد التزام مدني، بل قد يكون التزاما دينيا وشرعيا أيضا، فلا يضع المواطن الدين جانبا حين يلتزم بالقانون، بل يرى أنه مأمور به دينيا.
وعن التعايش، أوضح ميرزائي أنه مفهوم جميل ولا يمكن رفضه، لكنه بحاجة إلى ما هو أعمق. فالتعايش وحده قد يبدو سطحيا إذا لم يكن مسنودا بمبررات إيمانية وشرعية، ومن هنا تأتي الحاجة إلى تجديد ديني يمنح التعايش شرعية ومظلة ميتافيزيقية وأخلاقية. وتابع: إن دوائر الهوية متعددة فقد لا يشترك مع الآخر في الانتماء القومي، لكنه يلتقي معه في الدائرة الإسلامية أو الإنسانية. وهكذا فإن المرجعية التي تربط بينه كإيراني وبين العماني مثلا، هي مرجعية إسلامية أو إنسانية، حيث 'إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق'. وهذه الرؤية تشكل حصانة اجتماعية تحول دون الانزلاق إلى نزاعات رغم وجود تنوع وتعدد.
وأشاد بالنموذج العماني الذي استطاع تقديم صيغة متوازنة للتعايش، مقارنة بالتجربة الغربية التي تسمح للفرد – باسم الحرية – بأن يسيء إلى مقدسات الآخرين ورموزهم. ففي حين تغيب في الغرب ضوابط أخلاقية تقيد هذا السلوك، نجد في التجربة الإسلامية أن الجانب الأخلاقي والعقلاني واللاهوتي يمنع خرق الإطار الإنساني التعايشي.