ثقافة

قلم

تحسين يقين

 

منظومة متماسكة متآلفة، بوعي وقلب، تلك التي نطمح إليها، لما يمكن أن تحققه من أهداف نبيلة، أولها البقاء الحر هنا على هذه الأرض.
إن التأمل في تاريخ الحضارات، وفي تاريخنا نحن، سيؤشّر بوضوح إلى أهمية بناء الفرد والجماعة، والذي أساسه الكلمة.
وحينما كاد المعلّم أن يكون رسولا، في بيت شعر المشهور لأحمد شوقي:
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا، فإنما دلّ ذلك على وعي الشاعر بأهمية التعليم كضمانة وجود للأمم.
لقد أتبع شوقي البيت الأول الذي افتتح به قصيدته البيتين التاليين:
أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي
يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا
سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ
عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى
والحق، أن هذه القصيدة التي أصبح عمرها الآن 93 عاما، تستحق إعادة التأمل على ضوء تغيرات العمر والحياة، فقد توفي شوقي في العام نفسه الذي أبدع فيه هذه القصيدة، حيث كان قد ألقاها الشاعر السبعيني عام 1932، احتفاءً بالمعلم ودوره الحيوي في المجتمع.
ولا أظننا بحاجة إلى أي جدل حول أهمية التعليم، ولكننا بحاجة لكثير تعمق في البحث في التعليم اليوم ضمن منظومة المجتمع، الذي يمر في تحولات سريعة، ضمن نظام دولي لا يحتكم إلى العدالة والسلام.
وعليه، ففي هذا التوجه العقلاني، فلا مجال للنزق والعجلة. وسيكون للكتاب دور حقيقيّ إذا ارتبطوا بالمنظومة البنائية، دون تشتيتها وتحمليها ما لا تستطيع حمله، إلى أن تصبح قادرة لحمل الأثقال والسير بها وصولا إلى موانئ آمنة.
يتمثل البنيان المعرفي بالعلم والتعليم والإعلام والتثقيف، ويشكل التعليم بيت القصيد، كونه الحلقة الأقوى، التي نصل من خلالها إلى أكبر عدد ممكن من المواطنين، ضمن نظام التعليم العام، بعد أن كان قبل ذلك نظام تعليم نخبويّ.
في ظل تغوّل الدول التي توصف بالكبرى على سيادتنا على أرضنا، وسيادتنا المعرفية، مدفوعة برغبة استعمارية، ومدعومة بمنطق الإرهاب بسبب التفوق العسكري والأمني، فليس أمامنا اليوم إلا التخطيط للبناء الاستراتيجي.
وسيكون البدء ببناء الأمل مدخلا مهما لنا جميعا، وإعادة الاعتبار للإنسان العربي، ومنتجاته الاقتصادية والمعرفية، وهو ابن حضارات كانت لها بصمة على حضارة الإنسان.
قبل 35 عاما، كان الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين يكتب في عموده اليومي بجريدة الأهرام عن أهمية العلم والتكنولوجيا. كنت وقتها في أول العشرين من عمري، وكنت أدرس الأدب العربي، لحبي لعالم الأدب والفن، وإيماني وقتها بضرورة وجود الأدباء. وقد كانت كتب اللغة العربية المدرسية تحتفي بالأدب نثرا وشعرا، إضافة إلى نصوص عامة تتعلق بقضايا المجتمع، لكن قلما احتوت على نصوص في عالم المعرفة والتفكير، حيث ركزت على الجماليات الأدبية، التي جعلتنا ننفعل وجدانيا في مواضيعها، دون أن يرتبط ذلك بما يلزم للبناء المعرفي.
نبع اهتمام الكاتب بهاء الدين بالمعرفة العلمية والتكنولوجية، من إيمانه بأن بقاء بلادنا قوية مهابة يرتبط بامتلاك لغة العصر وأدواته، وهكذا فقد فتح الكاتب، بكلمات أعمدته عقلي على رؤية جديدة لدور الأدب والفنون والعلم والمعرفة ضمن منظومة بناء مجتمعات قادرة على تحقيق استقلالها الحقيقيّ.
وحتى يتحقق البناء الذي نطمح له جميعا، ينبغي مراعاة ما ننشره جميعا عبر وسائل الإعلام والإعلام المجتمعي، بل حتى في أحاديثنا اليومية، بعيدا عن الإشاعات والفتن وكل ما يمكن أن يؤدي إلى تفكيك العلاقات داخل أقطارنا، وداخل إطارنا القومي الإنساني.
إن الاهتمام الأصيل بالمعرفة، والفكر، والثقافة، هو اهتمام أصيل، وبذا فإن الانتباه الفعلي للمنظومة المجتمع والحكم الصالح، مدفوعة بالالتزام الوطني والقومي الإنساني، بتوفر دوافع روحية، مستندة لعقيدتنا السمحة، سيكون ضمان تحقيق نهضة بلادنا، وضمان استمراريتها.
والحق أننا نشهد تجارب ناجحة في بلادنا، لكنها تتعرض لكيد الطامعين بحكم ثرواتنا، وعليه، فإن الكلمة الموحدة والجامعة، تجعلنا أقوياء بتحالفنا معا، وهو التحالف الأصيل غير المرتبط بمصلحة لطرف دون آخر، لأننا جميعا طرف واحد.
في ظل البناء المعرفي الإنساني، تصبح قضايانا العامة قضايا شخصية لكل منا، كون مصيرنا الجمعي يقتضي الجدية في دعم الأمن العربي على كافة الأصعدة بدءا بالأمن المعرفي والغذائي، وصولا إلى الاعتماد على الذات، وهنا فإن كلمات الكتاب هي طيور بناء للإنسان العربي، سيكون لها، ولكل كتاب الرأي العام، دور فاعل حين تستند إلى بنية تعليمية للنشء تقوم على أن ابن وابنة هذا البلد العربي، هو ابن وابنة بلادنا جميعا، تؤازرها سياسة إعلامية وثقافية تتفق معها، تتقوى روحيا من خلال خطب المساجد الواعية على دور الفرد في بناء مجتمعه، وعلى التأكيد على الانتماء الطبيعية لهذه الأمة.
لقد بث الاستعمار الفتنة في بلادنا فيما عرف بالربيع العربي لتحقيق غايات غير بريئة، واستدرج الشباب لمزيد من التيه، إما بالانتماء لتيارات غريبة عنا أو إلى الاغتراب والاستسلام للوهم. وقد كان من الممكن إعادة بناء مجتمعاتنا من خلال تصالحية واعية، تدرك ما يحاك لنا؛ فلم يكن من الممكن تقبّل أن الطامعين بنا قلقون على دمقرطة مجتمعاتنا.
كل ومسؤوليته حاكما ومحكوما، فلسنا في حالة صراع، بل في حالة نقاش عما يصلح الحال؛ فكما أن دور الكاتب هو التوعية وتقديم النصيحة للحاكم والمحكوم ومساءلتهما، فإن مسؤولية المجتمع ومنظومة الحكم الإصغاء للكاتب الموضوعي؛ بمعنى أنه في الوقت الذي لا نرغب بكتاب منحازين للحكم حقا وباطلا، فإننا لا نرغب بكتاب يلجأون إلى السطحية وإثارة مشتتة، لأننا عانينا طويلا من 'شعبوية' تظن أن شعوبنا جاهلة، تظن أن ذلك يشكل مطلبا لها.
ما زالت عبارة صلاح الدين تدق في مسمعي: 'ما فتحت بلادًا بسيفي، ولكن بقلم القاضي الفاضل' إيمانا بدوره الأساسي في دعم جهاد صلاح الدين من خلال كتاباته وتوجيهاته السياسية والإدارية والعسكرية، والتي ساعدت في تحقيق الانتصارات وفتح البلاد.
وعليه، يشكل الكتاب والأدباء مجالا حيويا في توعية المجتمع، ففي الوقت الذي نستمتع بالشعر والقصة والرواية، فإن الأديب الواعي حين يدلي برأيه الفكري في قضايانا من وقت لآخر، فإنه يساهم من خلال شهرة الاسم في التربية على المعرفة.