ثقافة

أقفال جيمس جويس ومفاتيح محمد فرج!

 

حين شرعتُ منذ سنواتٍ بعيدة في قراءة رواية جيمس جويس 'عوليس' بدا لي أنني أتسلَّق جبلاً منذ أول صفحة. لم آخذ التنبيهات بضرورة أن أضع بالقرب مني معجماً على محمل الجد، ولكن مع الجملة الافتتاحية 'هلَّ بوك ماليجان ربيلاً بفخامة عند رأس العتب يحمل طاساً زبداً تصالبت عليه مرآة وموسي'، فهمتُ أن وجود معجم ليس رفاهية. لقد استطعتُ قراءة صفحات من 'الزمن المفقود' لمارسيل بروست، وشعرت أنني أقود سيارة 'فيات' متهالكة على أرض صخرية، لكن في 'عوليس' – لكي أصدقكم القول – كنت كمن يحاول أن يقود شاحنة باتجاه قمة ذاك الجبل.
بعد قليلٍ سألتُ نفسي وأظن أن كثيرين غيري سألوا أنفسهم: لماذا أستمر في قراءة رواية صعبة ومملة؟! ثم ركنتها على أحد أرفف المكتبة وأنا أفكِّر: ليس مطلوباً منك أن تقرأ كل كتاب صدر في العالم!
وأظن أنني على مدار سنوات حاولتُ العودة إليها، وفي كل مرة كنت أقطع أمتاراً ثم أركن الشاحنة وأترجَّل، إلى أن يئست تماماً وقررت عدم العودة إليها، وكنت أشعر بالغيظ حين يحدثني الكاتب المصري مصطفى ذِكري حولها، باعتبارها واحدة من الأعمال الكبرى التي أثَّرت في تكوينه، أو حين يسرد عليَّ بالتفصيل مواقف عاشها بطلها ماليجان، وقلت لنفسي إن ذِكري إنسان غامض لا يتعرَّض للشمس إذ يمضي في عزلته الاختيارية بالشهور ولا يغادر البيت إلا حين يوشك مخزونه من الطعام على النفاد وهذه الرواية تناسب إنساناً مثله.
ومنذ سنوات أيضاً بدا لي أن كاتباً مصرياً آخر هو محمد فرج يشاركني الإحساس بصعوبة 'عوليس'، وأظن أننا تبادلنا حواراً قصيراً عنها في 'أخبار الأدب'، حيث نعمل، وقال شيئاً من قبيل أنه يأمل في فهمها، ثم مرَّت سنوات لأفاجأ بكتابه 'لم يُعثَر عليه.. وقائع تمشية بجوار عوليس بحثاً عن د. طه'. لقد أمضى فرج سنواتٍ طويلةً في فك شفرات الرواية، باحثاً عن مترجمها د. طه محمود طه الذي أفنى عشرين عاماً من حياته في ترجمتها، وأعواماً أخرى في ترجمة روايته الأكثر صعوبة في تاريخ الأدب العالمي 'فينجانز ويك'، وبعد أن انتهى فرج من مغامرته وبدأ قراءة الرواية مجدداً بدت له سهلة وجميلة، وها هو يشرح المشهد الافتتاحي ببساطة: 'ماليجان شاب حسن البنية يحلق ذقنه في الصباح على رأس سلم في قلعة قديمة ويقيم قداساً هزليَّاً، ويدور حوار مع اثنين من أصدقائه؛ الأول ضيف إنجليزي والثاني شخصية جويس الأثيرة ستيفن ديدالوس، بطل 'صورة للفنان'، وبدأت الصفحات تتوالى'.
كان على فرج أن يجد أولاً ترجمتي الرواية، سواء الخاصة بصلاح نيازي، أو طه، كان يقرأ صفحة من ترجمة طه، ثم يعود لنفس الصفحة في ترجمة نيازي، ويعلن: 'الآن يمكنني القول إن قراءة 'عوليس' لجويس/ طه؛ حيث لا يمكن فصل الاثنين حتى إشعار آخر، هي أشبه بالدخول لمعبد كبير، أو هكذا سيُهيأ للداخل في البداية؛ إذ بعد فترة سيتحوَّل هذا المعبد إلى متحف ثم إلى مدينة ملاهٍ ثم إلى ساحة نقاش فلسفي في جامعة منسية ثم ماخور كبير، ثم ما شئت. في مقدمة الناشر للطبعة الثانية يذكر عبارة لأحد النقاد: عليك أن تقرأ خمسة عشر ألف صفحة كي تكتب سطراً جديداً عن شكسبير، يبدو الأمر كذلك مع عوليس/ جويس. وربما أكثر وعورة'.
ببساطة، 'عوليس' هي قصة لقاء بين ثلاث شخصيات يحدث بعد كثير من الدوران، كما يقول فرج، ويمنح هذا اللقاء كلاً منهم ما كان يبحث عنه طويلًا ولم يجده إلا بعد ذلك التلاقي. شاب ممتلئ بالأفكار والثورة والرغبة في إنتاج عمل فني يعبر عنه ويبحث عن الاعتراف، لا يفتش عن أب بل عما تمثله فكرة الأبوة. وكهل في منتصف العمر هادئ الطباع، حيوي المعرفة مات ابنه وهو رضيع قبل أعوامٍ فانكسر بداخله شيء واضطربت علاقته بزوجته من ساعتها، يظل يطوف في المدينة وكل التفاصيل تذكِّره بامرأته، ويجد في الشاب الفنان تجسيداً لابنه كما تمنَّى أن يكون فتهدأ نفسه. ثم الزوجة الجميلة التي غاب عنها زوجها كما عرفته وأحبَّته في سنين علاقتهما الأولى، لم يغب جسدياً لكن عاطفياً، منحت نفسها لآخرين لكنها ظلت تنتظر عودة الغائب مستردِّاً نفسه، وهو ما يحدث في آخر اليوم الطويل، وفي ذهنها ينتصر الزوج على كل عشاقها السابقين.
يبدأ فرج في الربط بين حياة الأبطال وحياة خالقهم جيمس جويس ليطلعنا على الكيفية التي نقل بها مشاهد من سيرته إلى الرواية، ثم يعرِّج إلى الأوديسة وبطلها أودسيوس أو يوليسيس أو عوليس، ويصل أخيراً إلى بيت القصيد، وهو تقصِّي سيرة الدكتور طه، وفي كل سطر عنه يمنحه فرج حقه تماماً، فذلك الرجل من عينة أنبياء الثقافة وخلصائها.
عمل طه – بحسب فرج - لمدة اثني عشر عامًا كموظف في شركة ماركوني للتلغراف قبل التحاقه بالجامعة. يحكي طه: 'الكلام في التلغراف عبارة عن نقط ونغمات متتابعة بسرعة وكنت أتسلم تلك الإشارات لأترجمها فوراً إلى حروف وأكتبها في اللحظة نفسها على الآلة الكاتبة، وهذا بالفعل جعلني ذا قدرة خاصة على حل الرموز، وربما نفعني بشكل خفي في ترجمة أعمال جويس'.
بدأ طه في ترجمة 'عوليس' عام 1964 ونشر الفصل الرابع في مجلة 'الكاتب' مايو 1964 تحت عنوان '45 دقيقة في حياة المستر بلوم' مع مقدمة وشرح للنص. ثم أتبعه بنشر ترجمة للفصل العاشر 'المتاهة الصغرى في عوليس' في مجلة 'المجلة' نوفمبر 1965. وبعدها توقف ليسأل نفسه: هل أعدُّ كتاباً عن جويس يتناوله وأعماله بالنقد والتحليل أو أترجم 'عوليس'؟ ولإدراكه التام – كما يحكي - لصعوبة العمل آثر أن يبدأ بالمدخل إلى عالم الكاتب الأيرلندي: 'موسوعة جيمس جويس' في عام 1975، واستغرق إعدادها منه خمس سنوات قدَّم فيها للقارئ جرعاتٍ صغيرةً من أعماله مترجمة مع شروح وافية. ثم بدأ في ترجمة 'عوليس' بعد أن تجمَّعت لديه خيوطها. على مدى عشرين عاماً، ومنذ أن ذهب إلى كلية ترينتي بجامعة دبلن مسقط رأس جويس، للحصول على الدكتوراه في أعمال الأديب والمفكر ألدوس هكسلي؛ كان جويس في باله، وعلى مدى ثلاث سنوات قضاها في أيرلندا زار الأماكن التي يصفها جويس بالعاصمة. وبعد أن انتهى من الترجمة عام 1978 منحته جامعة الكويت إجازة تفرغ علمي لمدة فصل دراسي قضاه بجامعة تولسا أوكلاهوما بكلية الدراسات العليا راجع فيها النص المترجم مع عميدها الأستاذ توماس ستيلي؛ رئيس تحرير مجلة 'جيمس جويس الفصلية'، وغيره من الأساتذة المتخصصين في جويس والأدب الحديث.
وكما يحكي فرج قصته مع جويس يحكي قصته مع د. طه وكيف جمع سيرته عن طريق نجله وبعض مَن تعاملوا معه مثل الناشر أمين المهدي، لكن رحلة الوصول إلى هؤلاء الأشخاص لم تكن سهلة، كأن أي شيء يتعلق بجويس يجب أن يكون صعباً. امتازت لغة فرج بالسهولة الآسرة التي تسم أدبه فهو كاتب قصة من الطراز الرفيع، كما استخدم أسلوب التشويق الذي جعل من القراءة عن عمل شديد الصعوبة شيئاً في منتهى المتعة، وقد خرج فرج عن خط الكتاب ليسرد حكاياتٍ تتعلق بعالمه هو نفسه ومع ذلك لم أشعر بأنها حكايات زائدة.
هذا الكتاب يصلح للقارئ العادي المحبِّ لقراءة السير الأدبية، ويمنحهم مفاتيحَ لأقفالِ الرواية وأقفالِ أعمال جويس الأخرى، والكتاب كذلك يصلح للباحثين، فقد خصص فرج فصولاً تتعلق بتقييم ترجمة د. طه كما يتقصَّاها عند المتخصصين، وكذلك يعود من جديد إلى الأوديسة ويربطها بعوليس، كأن البطلين، أي أودسيوس وعوليس وجهان لعملة واحدة.