ثقافة

الخليجيون في أوساكا.. "نحن لسنا نفطا فقط"

يوميات صحفي في إكسبو أوساكا "٢"

 

هذه أجمل نقطة يمكن أن ترى من خلالها معرض 'إكسبو أوساكا٢٠٢٥' في صورة متكاملة، أمامك المعرض بكل ما يحمله من أفكار ورؤى للمستقبل وباختلاف أنماطه المعمارية، وخلفك الماء/ البحر الذي يمكن أن تبحر فوق صفحته الزرقاء كل تلك الأفكار والأحلام والطموحات التي جاء بها العالم إلى أوساكا. اخترت هذه النقطة بعناية بعد أن انتظرت هدأة الشمس الملتهبة التي قاربت الآن على الغروب داخل أعماق الماء. عشرات الآلاف من البشر يتجولون وسط أجنحة الدول المختلفة بحثا عن الأفكار الجديدة التي تشعل خيال المستقبل، وبحثا عن الثقافات الأخرى التي قلما تجتمع معا في مكان واحد. إنها لحظة مخاتلة من لحظات العولمة في بلد استفاد كثيرا من معطياتها أيام المجد قبل أن تضربها تحولات العالم ومآلاته في الصميم.
أصعد فوق المطاف الخشبي الضخم وأطوف من الطائفين باتجاه عقارب الساعة، أتأمل الأجنحة من مكان مرتفع، وأتأمل حركة الناس الدؤوبة.. لا أحد يريد أن تفلت دقيقة منه دون أن يستغلها الاستغلال الأمثل؛ فقيمة الوقت هنا كبيرة. أكمل دورة كاملة قبل أن أقرر زيارة الأجنحة الخليجية لأفهم أفكار منطقتي.. ماذا تريد أن تقول للعالم، وما هي الرؤى والأفكار التي يمكن أن تحملها لهم من أجل المستقبل، ومن أجل حياة أفضل.
السعودية
أبدأ من جناح المملكة العربية السعودية الذي يقدم تجربة حسية متميزة يستطيع الزائر التفاعل معها بكل حواسه، وهي تجربة تعكس تاريخ المملكة ورؤيتها المستقبلية. يبدو تصميم الجناح مستمد من فكرة الاستدامة التي ستتكرر في أغلب الأجنحة الخليجية والتي يمكن أن تكون السمة الأبرز أو العامل المشترك بينهم. وهناك عوامل مشتركة كثيرة بين الأجنحة الخليجية ربما أبرزها أن الجميع يريد بناء صورة ذهنية عن بلده أنه ليس نفطا وغازا، وهذا سياق سآتي في هذه الرحلة. يمزج الجناح السعودي بين المواد المستمدة من البيئة المحلية وبين التقنيات الحديثة في محاولة جادة لتقديم تجربة متناغمة بين التمسك بالمعطيات المحلية وبين الانطلاق نحو العالم عبر استيعاب تقنياته وثوراته التكنولوجية. وكان واضحا التركيز على الطاقة الجديدة الخضراء التي يمكنها أن تخاطب الوعي العالمي المنشغل كثيرا بقضايا المناخ وأخطار الطاقة الأحفورية. ويجد الزائر بعد التجوال داخل الجناح بعض الأفكار التي لا تبتعد عن أطروحة الاستدامة حينما يصل إلى قاعة 'البحار المستدامة' ليقف على مشروع الشعاب المرجانية التي تعكس الاهتمام الكبير بالبيئة.
الإمارات
ومن السعودية إلى الإمارات التي كانت فكرة الاستدامة واضحة جدا في جناحها الذي يشتغل على ثيمة 'النخلة'، وكيف يمكن أن تكون منطلقا لمشروع مستدام. وأول ما يقابلك وأنت تخطو نحو الداخل مساحات مفروشة 'بالنوى'، قبل أن تشاهد الجناح من الداخل والقائم على فكرة الأعمدة الضخمة المصنوعة من جريد النخيل. أمّا الرائحة فهي رائحة 'نضد' التمر التي لا يخطئها الأنف الخليجي أبدا. وأنت تسير بين الأعمدة التي تملأ الركن عن آخره متجها إلى عمق الجناح تشعر أن ثمة نقلة نحو الفضاء تضعك في صورة مشاريع دولة الإمارات 'الفضائية' بدءا بمسبار الأمل وليس انتهاء بأحلام المستقبل الذي جاءت دول العالم كلها إلى أوساكا من أجل أن تحلم بها وتبحث لها عن مسارات آمنة لتحقيقها. تريد الإمارات أيضا أن تقول للعالم أنها ليست نفطا، وأن لديها طريق ممتد من جريد النخل إلى المريخ.
الكويت
الكويت 'منارة' هكذا عرفناها وهكذا تقدم نفسها في أوساكا، وأول ما يقابلك وأنت تخطو نحو الجناح بلورة ضخمة نازلة من سقف السماء ترى في جوهرها الكويت بكل تجلياتها، بإنسانها وأفكارها ومشاريعها.. لكنها، أيضا، ليست نفطا فقط، رغم صور حقول النفط وتاريخه. فهي مزيج من الماضي والحاضر، وهي مزيج من الحلم والعلم. فعليك أن تقول حلمك وتقذف به نحو السماء ثم تنتظر أن تراه يتشكل في قبة فلكية ضخمة. والكويتيون بارعون في علم الفلك، منذ أن كانوا نواخذة يجوبون البحار. تقول الكويت 'نحن هنا' ولكن أيضا بلا صخب، وأظن أن 'الهدوء' حين يكون مقصودا يصبح رسالة سياسية بقدر ما هو خيار تصميمي ومعماري.
قطر
ومن الكويت إلى قطر. تُذكِّر الواجهة بجسم سفينة قديمة تقف في وضع بين الرسو والإبحار، وأحسب أن هذا المشهد يمكن أن يختزل صورة قطر نفسها. إنها شبه جزيرة في وسط الخليج تشبه سفينة توشك على الإبحار في أعماقه نحو العالم. والمعرض يحاول تجسيد هذه الفكرة سواء قال المنظمون ذلك أم لم يقولوه. فالمياه الخارجية المحيطة بالجناح هي مياه الخليج التي تحيط بقطر من أغلب حدودها. واللون الأبيض هو صفاء البلاد وسلامها الداخلي. أما الخشب الياباني الذي يحيط بالجناح فهو يرمز إلى علاقاتها بالعالم.
والغريب أيضا، أن قطر تقول للزائر أنها ليست نفط، رغم أنها ترسم على جدران الجناح خطوط النفط والغاز التي تحيط بالبلاد وتصنع شاريين الحياة منها نحو العالم.. تقول بشكل واضح إنها، مع النفط والغاز، تاريخ صنعه الإنسان، وعلاقات متشابكة مع العالم، وموانئ مفتوحة للاستثمار، وفنون وجهود إنسانية وخيرية.
في الداخل، شاشة واسعة تروي حكاية ساحل طويل. وجوه الغواصين تخرج من حبيبات أرشيف متقطع لتحكي قصة الإنسان وكفاحه. والقصة ليست عن مجد مضى، ولا عن هُوية تسعى إلى الرسوخ.. ولكنها علاقة مستمرة مع بحر تغير أكثر مما تغير الناس.
يعرض جناح قطر نماذج من اللولو الذي كان البحارة يستخرجونه من عمق الخليج قبل أن تغير اليابان المشهد بالكامل حينما تجاوزت الجميع وقامت باستزراعه في بحارها لتنهي تاريخا إنسانيا حافلا مع تجارة اللولو. ولا أعرف ما إذا كان اليابانيون انتبهوا لهذه الرمزية في بعض الأجنحة الخليجية.
البحرين
تلتقي البحرين مع اليابان في أن البلدين عبارة عن جزر، ولذلك أعطت جناحها عنوان 'تلاقي البحار' في إشارة لا تخفى عن فكرة تلاقي الحضارات والثقافات.. أما أنا ففضلت أن أبحث في المعرض عن العيون العذبة التي ضلت تروي البحرين قرونا طويلة قبل أن تفكر في تحلية مياه البحر. الخشب يحضر هنا مرة أخرى لكن بملمس يقترب من جسد 'الداو'، ورائحة خفيفة لملح قديم. وعرض لا يثقل الزائر بالحكايات، ويعطيه فرصة للتفكير والحديث ولو مع نفسه.
يقدم الجناح تجربة حسية فريدة تعتمد على الحواس الخمس. حيث يمكن للزوار التعرف على الثقافة البحرينية عبر مناطق مخصصة، بما في ذلك تجارب اللمس والرائحة التي تعكس انتقال الحرف التقليدية إلى الصناعات الحديثة. ما يمز الجناح البحريني أيضا أنك تستطيع أن تلتقي بالفنون الشعبية أمام الجناح بكل سهولة حيث يجتمع الزوار ليعشوا تجربة فريدة بالنسبة لهم.
ماذا بعد المعرض؟
عندما خرجت من جناح البحرين كانت شمس أوساكا قد اختفت تماما داخل البحر، وبقيت الأضواء والأفكار الخارجة من الأجنحة تنير الطرقات والردهات الخارجية. أحاول أن أبحث عن فكرة يمكن أن تجمع بين الأجنحة الخليجية. ثمة أفكار كثيرة، وبعضها كبير جدا، ولكن ما زلنا نعيش المأزق نفسه، وهو مأزق الهُوية؛ فالجميع يريد أن يقول للعالم 'نحن لسنا نفطا'، نحن أيضا نملك تاريخا صنعه إنسان هذه المنطقة.. نملك تجاربنا الماضية ونصنع مستقبلنا، ونساهم في صناعة مستقبل العالم.. حتى بنفطنا وغازنا! السعودية تقول بوضوح وبكثير من الأدلة أنها تصنع التحول، والإمارات تنطلق من النخلة للفضاء، وقطر تغير صورة المنطقة في ذهنية العالم، والكويت تنثر إنسانيتها في كل مكان، والبحرين تكشف عن كنوز مدفونة من التاريخ. وكل هذا الثراء يستحق أن يراه العالم، إنْ كان غير قادر حتى الآن على رؤية ما يحدث في 'الخليج'.
لا أعرف إلى أي مدى نجحت دول الخليج في إفهام أوساكا والعالم الحاضر هنا أن دولهم ليست نفطا فقط.. لكن المؤكد أن اليابانيون يفهمون جيد، فهم أيضا يحاولون، أحيانا، القول إنهم ليسوا آلات أو روبوتات، إنهم كتل بشرية لها أحاسيس ومشاعر وأن الصور الذهنية التي تتشكل في العالم ليس شرطا أنها تقول الحقيقة كلها. وفي جميع الأحوال فإن القضية الأساسية ليست أن نعرض أنفسانا كما نحب أن يعرفنا العالم، ولكن أن نعيد تدريب أنفسنا على أساليب وعادات تنقذ الحياة من غير استعراض وتستطيع أن تصل للجميع دون حتى أن نقولها أو أن ندعيها. ولذلك من المهم أن نعرف ماذا علينا أن نفعل مع العالم أفرادا ودولا بعد يوم ١٣ أكتوبر وهو اليوم الذي يسدل فيه الستار على إكسبو أوساكا للمرة الثانية في تاريخها.
أعبر من تحت المطاف الخشبي بصعوبة بسبب زحام الناس الذين يهمون بالمغادرة فلا يجدون بدا من العبور تحت المطاف هذه المرة. يخرج هؤلاء بتجارب كثيرة اكتسبوها طوال يوم في المعرض، ثقافات ومعارف وأفكار.. بعضها ستجد طريها للتنفيذ عبر العبقرية اليابانية المتحفزة للابتكار.
قبل أن أغادر، التفتُّ إلى المياه عند حافة الواجهة البحرية، فالمعرض مقام على جزيرة صغيرة وحافة المعرض عند الواجهة البحرية متداخل مع البحر تماما. أفكر أن اليابسة هنا لا تنهي البحر، البحر هو الذي يضع حدود اليابسة كل يوم. وأن الخليج ليس نفطا، إنه ماء أيضا، والماء قادر على صناعة علاقة أزلية مع الأرض والإنسان.
•كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان