أفكار وآراء

«حياة».. أهلًا بك كما أنت !!

الصدفة وحدها هي التي جعلتني أدير مؤشر الراديو في السيارة على إحدى الإذاعات المحلية التي كانت تقدم برنامجا صباحيا السبت الفائت تستضيف فيه المتحدث الرسمي لوزارة الصحة. جذبني الحديث؛ لأنه كان يتناول موضوعا من النادر أن تخوض فيه الإذاعات ووسائل الإعلام عموما، وهو أخطار الإدمان والمؤثرات العقلية. شعرت بالسعادة عندما تضمن الحديث خبر إطلاق وزارة التنمية الاجتماعية منصة «حياة» كأول منصة رقمية متخصصة في سلطنة عُمان تستهدف تقديم الدعم والمساعدة الفورية لكل أطراف مشكلة إدمان المخدرات في المجتمع من الأسرة إلى الفرد بالتعاون مع الأطباء، وخبراء الصحة النفسية، والقانونيين، وعلماء الدين، ومقدمي الرعاية الاجتماعية. 

عندما بحثت عن معلومات عن هذه المنصة وجدت أخبارا متفرقة نشرتها صحف محلية، منها خبر تضمن تصريحا للمتحدث الرسمي باسم وزارة التنمية الاجتماعية أقر فيه بالجهود المشتركة والتعاون المؤسسي المثمر الذي جمع ست وزارات لإطلاق هذه المنصة إلى جانب وزارة التنمية الاجتماعية، وهي وزارات الصحة، والأوقاف والشؤون الدينية، والتربية والتعليم، والتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، والإعلام، والثقافة والرياضة والشباب. وهو توجه محمود يجب أن يستمر خاصة عند معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية؛ كونه يؤكد تضافر جهود الجميع، وتكامل وتناغم الأداء الحكومي. 

في نفس اليوم تواصلت مع إحدى طالباتي السابقات وتعمل بإدارة الإعلام بوزارة التنمية الاجتماعية، وزودتني بمعلومات أكثر عن هذه المنصة وأهدافها، وموقعها على الويب، وحساباتها على شبكات التواصل الاجتماعي. ولأن «ليس من رأى كمن سمع»؛ فقد حرصت على تصفح موقع المنصة، ومراجعة حساباتها على منصات الشبكات الاجتماعية؛ حتى يكون حديثي عنها عن يقين ورؤية واضحة. 

ورغم أن موقع المنصة كما يقول عن نفسه ما زال تجريبيا ولا يعكس النسخة النهائية، فقد أسعدني المستوى المتميز له سواء في الشكل والتصميم والصور وأنواع الخطوط وحجمها، أو في المضمون المعرفي والتوعوي المنوع، والخدمات التفاعلية اللحظية التي يقدمها، على صفحته الرئيسية أو في الصفحات الداخلية. 

ولعل أول ما يلفت النظر في المنصة التفاعلية الجديدة الاسم والشعار اللذان تم اختيارهما بدقة واحترافية. الاسم يشير إلى الحياة التي يجب أن تعاش دون مخدرات. ورغم تشابه اسم المنصة مع أسماء منصات أخرى وطنية وإقليمية؛ فإنه يبدو الأنسب للتعبير عن الحياة الجديدة التي تنتظر المتعافين من هذا البلاء وأسرهم. أما الشعار فقد جاء مبدعا وغير تقليدي، ويحمل رسالة إنسانية راقية لا تلقي باللوم كله على من أصيب بهذا المرض، وهو شعار ترحيبي ينفي عن المنصة إصدار أحكاما مسبقة على من يلجأ إليها، ويقول «أهلا بك.. كما أنت». 

ويحمل الشعار دعوة لجميع أطراف هذه المشكلة إلى عدم الشعور بالحرج من المصارحة وطلب المساعدة. ويرسخ هذا الشعار قيم الاحتواء والقبول الاجتماعي حتى لمن أخطأ في حق نفسه وحق أهله ومجتمعه؛ انطلاقًا من حقيقة أن كل إنسان يستحق فرصة وبداية جديدة، وأن طلب المساعدة ليس دليل ضعف، بل دليل قوة وشجاعة، وأن رحلة التعافي من الإدمان مسؤولية مشتركة يتحملها الفرد وأسرته والمجتمع معًا. 

تخاطب المنصة بلغة إنسانية نادرة على صفحتها الرئيسية ثلاث فئات هي «الأسرة، والمريض الذي أسمته «الباحث عن التغيير»، و«المتعافين». وتوفر للفئات الثلاث بدء طريق التفاعل والتواصل والبحث عن الدعم بجميع أشكاله، والحصول عليه في إطار من الخصوصية والسرية. وعلى سبيل المثال؛ فإن الأسرة التي لديها مريض بإدمان المخدرات والمؤثرات العقلية يمكنها أن تبدأ على الفور في طلب المساعدة من خلال المنصة في التعامل مع هذا المريض واختيار طرق الدعم المختلفة التي يمكن أن يحصل عليها لوضعه على بداية طريق العلاج والتعافي. ومن خلال عدد من الأسئلة تتعلق بعلاقة طالب المساعدة من الأسرة بالشخص المتعاطي، ومرحلة التعاطي الموجود فيها، ونوع المخدر الذى يتعاطاه، وتأثير ذلك على الأسرة، ومدى استعداده للحصول على المساعدة، ومدى معرفة طالب المساعدة بإدمان المخدرات، وطرق التعامل معه، والاحتياجات الأكثر إلحاحا في الوقت الحالي، والحالة النفسية في التعامل مع الوضع، والخدمات التي تهمه وتشمل استشارات نفسية واجتماعية، والتواصل مع خبراء من المنصة وحضور ورش عمل عن الإدمان، ومدى استعجال الحالة. تقوم المنصة بتحليل الإجابات، ثم تقدم تشخيصا للحالة، ومجموعة من التوصيات مع تحديد مصادر الدعم المختلفة التي يمكن البدء فيها على الفور كالاستشارة النفسية، والاستشارة الاجتماعية. 

وتتعامل المنصة مع الشخص المتعاطي الباحث عن المساعدة بحذر وحساسية شديدة من خلال خدمات «باحث عن التغيير». تتصدر هذه الخدمات عبارة ذات دلالة عميقة، هي: «التغيير يبدأ بخطوة. حياتك تستحق فرصة جديدة. نحن هنا لنخطها معك». وتتضمن تلك الخدمات عشرة أسئلة تشمل الدافع للبحث عن المساعدة، ومواد التعاطي، ومدته، والمحاولات السابقة للتوقف، والمعاناة من أعراض الانسحاب، والمشكلات النفسية، ومدى علم الآخرين بمشكلة الإدمان، ومدى الاستعداد للتغيير، وخيارات العلاج المفضلة. وبعد تحليل النتائج تقدم المنصة توصياتها، كما تقدم مصادر الدعم المقترحة مثل الاستشارة الطبية والنفسية. 

وتخاطب المنصة أيضا المتعافين من إدمان المخدرات بشعار يقول «رحلتك للتعافي تستحق أن تكملها بثبات ووعي.. لا تمشِ الطريق وحدك.. نحن معك». وفي ضوء الإجابة عن مجموعة أسئلة تقدم المنصة توصياتها ومصادر الدعم التي تمكن المتعافي من الاستمرار في رحلته، والحفاظ على نفسه بعيدا عن العودة إلى التعاطي وتطوير ذاته. وتشمل هذه الأسئلة تحديد مرحلة التعافي، ونوع العلاج الذي تم تلقيه، وتحديات رحلة التعافي، وعوامل الخطر والانتكاس، والدعم الفردي الذي يحصل عليه، واستراتيجيات التأقلم مثل ممارسة الرياضة، والمشكلات النفسية، وأنشطة نمط الحياة الجديد، والأهداف في المرحلة الحالية، والاحتياجات الراهنة كالدعم في إيجاد عمل أو المساعدة في إعادة بناء العلاقات الإنسانية أو تعلم مهارات حياتية جديدة. 

واقع الأمر أن هذه المنصة الوطنية المهمة التي تستهدف التوعية بمخاطر الإدمان والمؤثرات العقلية تحتاج إلى دعم إعلامي كبير؛ لكي تصل إلى عدد أكبر من الناس لتحقق رسالتها التوعوية على الوجه الأكمل. من الجيد أن يكون عدد متابعي حسابها «غير الموثق على منصة «إكس- تويتر سابقا» 69 شخصا بعد أيام قليلة من إطلاق المنصة، ورغم أنها لم تنشر عليه سوى عدد قليل من التغريدات (26 تغريدة)، أما عدد متابعي حسابها على منصة «إنستجرام» فقد بلغ 572 متابعا، ونشر عليه سبع ملصقات. 

يحتاج الأمر إلى ترويج مكثف للمنصة عبر وسائل الإعلام التقليدية والرقمية للتعريف بها، وإرشاد كل من يهتم بهذا الأمر إلى اللجوء إليها لطلب مساعدة تفاعلية سريعة ومنجزة وسرية تستهدف مساعدة المجتمع على الحد من ظاهرة تعاطي المخدرات، وتحفظ الحياة الإنسانية. 

بعد إطلاق منصة «حياة» أعتقد أنه من المهم أن يلعب الإعلام دورا رئيسيا في تشكيل المفاهيم المجتمعية المرتبطة بالإدمان، وذلك من خلال التعامل مع الإدمان كمشكلة صحية قابلة للعلاج، وتقديم تغطية مسؤولة لها تسهم في تعزيز فرص التعافي، وتبني نهج داعم للمتعافين والراغبين في التعافي يركز على الجوانب العلاجية والوقائية وليس فقط الجوانب القانونية والعقابية. وفي اعتقادي أن تسليط المنصات الإعلامية الضوء على الحملة المصاحبة لإطلاق منصة حياة من شأنه أن يساعد المجتمع في التخلص من آفة المخدرات، والحد من آثارها السلبية. 

 أ. د. حسني محمد نصر أكاديمي فـي قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس