أعمدة

لمن لا صوت له

«أهدي هذه الجائزة لمن لا صوت له».

بهذه الكلمات استهل غاري لينكر، اللاعب والمعلق الرياضي البريطاني المعروف، خطابه عند استلامه جائزة التلفزيون الوطني في بريطانيا، مُهديًا إياها للشعب الفلسطيني الذي يتعرض لإبادة جماعية ومحاولات ممنهجة للتهجير والتجويع على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي. وأضاف لينكر عبارة لافتة بقوله: «من المقبول أحيانًا استخدام منصاتنا للحديث عن أولئك الذين لا صوت لهم». 

هذه العبارة تفتح باب النقاش حول مسألة جوهرية في العمل الإعلامي: هل يحق للإعلامي أو لصاحب منصة جماهيرية أيا كانت تلك المنصة أن يخرج عن موضوعه الأصلي ليطرح قضايا إنسانية أو سياسية؟ وهل يُعد ذلك خلطًا بين الأدوار أم ممارسة لواجب أخلاقي؟ 

إنّ ما قاله لينكر يختصر جدلًا قديمًا في الإعلام: حدود الوسيلة الإعلامية وأخلاقيات استخدامها، فالرياضة قد تتحول إلى مساحة لمناقشة السياسة، والفن قد يصبح وسيلة للتعبير عن قضايا اجتماعية، والصحافة المتخصصة قد تجد نفسها منخرطة في سجالات أبعد من نطاقها. هذه الممارسات تطرح سؤالًا مهمًا: متى يكون ذلك تضامنًا مشروعًا، ومتى يصبح استغلالًا للوسيلة؟ 

هذا الجدل في الحقيقة محسوم منذ زمن بعيد، فأدبيات الإعلام والصحافة أشارت بوضوح إلى هذه المسألة في أول ميثاق أخلاقيات إعلامي وضع عام 1926 من قبل الجمعية الأمريكية لمحرري الصحف، ثم تبعته مواثيق متعددة أصدرتها صحف ومؤسسات إعلامية أخرى. هذه المواثيق حدّدت ما يجب أن يعرفه كل ممارس للإعلام البحث عن الحقيقة، توخي الدقة، الاستقلالية، المسؤولية، النزاهة، والحياد. 

وقد تبدو هذه البنود اليوم أقرب إلى المثاليات التي تشبه ما تحدث عنه أفلاطون في مدينته الفاضلة؛ حيث يعيش الإنسان وفق منظومة أخلاقية تضمن له حياة سعيدة. لكن ما نراه في الواقع هو أن هذه المبادئ غالبًا لا تتجاوز كونها مواد تُدرَّس في كليات الإعلام أو تُحفظ في أدراج المؤسسات الإعلامية، بينما يبقى تطبيقها الفعلي محل تساؤل دائم. الخوض في جدلية الأخلاقيات لا ينتهي، سواء أكانت أخلاقيات إنسانية عامة أم أخلاقيات تخص العلوم المختلفة. وقد أفاض علماء الأخلاق في تناولها دون أن يصلوا إلى محددات واضحة ترسم إطارًا نهائيًا للأخلاق الفاضلة. الأمر نفسه ينطبق على الإعلام؛ حيث اختلف علماء الإعلام في تعريف الأخلاقيات الإعلامية، لكنهم أجمعوا على أن لكل وسيلة الحق في صياغة مواثيقها الخاصة التي تختلف بحسب سياساتها ونطاق عملها. ولست هنا بصدد التوسع في هذه الجدلية، ولا في الحديث عن المهنية التي تأتي في مرتبة أدنى من الأخلاقيات الإعلامية، إذ قد تخلو المهنية من أي مضمون أخلاقي، وهو نقاش آخر لا أود التطرق إليه. لكن بالعودة إلى تصريحات لينكر عن «لمن لا صوت له»، فإن ما قصده في جوهره يرتبط بما يُعرف اليوم بـ التعتيم الإعلامي. ولأن كسر هذا التعتيم يتطلب شجاعة، فإن الإعلامي يجد نفسه أحيانًا مضطرًا لاستخدام منصاته لتسليط الضوء على ما يُراد إخفاؤه أو طمسه. 

لماذا نلجأ إلى التعتيم إذا كنا ندّعي السعي وراء المثالية الأخلاقية؟ سؤال يكشف تناقضًا بشريا صارخًا. فالتعتيم بما يحمله من إسكات وإخفاء وإقصاء يتنافى في جوهره مع أي مفهوم راسخ للأخلاق. ومع ذلك، نجد أن من يرفعون شعار الأخلاق يبررون فعلهم بحجة أن الفرد أو المجتمع «لا ينبغي أن يعرف كل شيء»، وأن تبسيط الحقائق أو تسطيحها أنسب له. بل يذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك حين ينصّبون أنفسهم أوصياء ومشرفين على هذا الحجب، وكأنهم يملكون حق تقرير ما يجب أن يُقال وما يجب أن يُطمس. وهكذا يغدو التعتيم في ظاهر الأمر ممارسة أخلاقية، بينما هو في حقيقته أداة لمصالح ضيقة تُمارَس باسم المثالية. 

الغرب عمومًا، وإسرائيل خصوصًا، يدّعون المثالية الأخلاقية خصوصا في تعاطيهم الإعلامي فبينما يمارسون التعتيم والإخفاء عن شعوبهم بحجة «حماية الناس من المعرفة الزائدة»، فإنهم في المقابل يروّجون لموضوعات تخدم مصالحهم ويجب الحديث عنها بشكل واسع. مثال ذلك القضية الفلسطينية وما يقوم به الإسرائيليون من قتل وسفك للدماء، حيث تُخفى عن الرأي العام الكثير من الفظائع، بينما تُروَّج المثلية والحرية الجنسية والشذوذ على نطاق واسع باعتبارها قيمًا إنسانية. بتفعيل مبدأ «إعطاء صوت لمن لا صوت له» فإن فارقا كبيرا سوف يحدث، فالتحركات الأخيرة في الأمم المتحدة، من اعتراف دول مثل بريطانيا وكندا وفرنسا وعدد آخر من دول العالم بالدولة الفلسطينية، ودعم حل الدولتين، والانسحاب من غزة، والسعي نحو سلام عادل وشامل، لم يكن لها أن تتحقق لولا هذا المبدأ. التعاطف الشعبي الكبير مع القضية الفلسطينية، وفضح الانتهاكات الإسرائيلية، لم يكن ممكنًا إلا لأن كثيرًا من المخلصين طوعوا منصاتهم لدعم القضية. وهذا هو ما يجب علينا نحن، كصحفيين وأفراد، الاستمرار فيه برفع الصوت والوقوف في وجه آلة القتل، وكشف كل الممارسات غير الأخلاقية، وإعطاء صوت لمن لا صوت له. 

عبدالله الشعيلي رئيس تحرير جريدة «عُمان أوبزيرفر»