مع القراءات الأولى
الأربعاء / 1 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 10:01 - الأربعاء 24 سبتمبر 2025 10:01
محمود الرحبي -
تتحدث الكاتبة الإيرانية المقيمة في واشنطن آذر نفيسي في كتابها «القراءات الخطرة - القوة المؤثرة في الأزمنة المضطربة»، عن بداياتها مع القراءة، حيث جاء الكتاب على هيئة مراسلات مع والدها الراحل (بابا جان)، وفيه تستطرد أن أول من عرفها على القراءة هو والدها الذي كان شغوفًا بالكتب وفي مختلف المجالات، من مقولاتها في هذا الكتاب:(لا يمكن السيطرة على الخيال أو ضبطه، فهو ملك مشاع لكنه مشاكس، يرفض الخنوع لأيدلوجية واحدة)، فإذا كانت الكتابة حرة فإن القراءة أيضا حرة، بل هي أكثر حرية، يقول طه حسين: (إذا كان الكاتب مقيدا فالقارئ حر)، أيضا قال بورخيس ببساطة في هذا السياق: «يمكنك أن تترك الكتاب في أية لحظة إذا أشعرك بالملل). لذلك فإن هناك شغفا يقودنا نحو القراءة، وبهذا كان القدماء العرب أذكياء حين كانوا يرصعون حتى كتاباتهم الفلسفية والطبية بالأبيات الشعرية والأمثال والأخبار، كنوع من التهوية للقارئ حتى لا يشعر بالملل، وكان أكثر البارزين في هذا المجال هو الجاحظ من خلال ما سماه بالاستطراد، أو ما أطلق عليه عبدالفتاح طيليطو بالقفز والوثب.
بالنسبة إلى كانت بدايتي مع قراءة القصص التي كان يجلبها إلى قرية الطفولة «سرور» عمي يعقوب، المولع بقصص الفرسان وبالأخص قصة عنترة وعبلة، حتى إنه عندما اشترى لاحقا جهاز فيديو، لم يرَ فيه إلا فيلم عنتر وعبلة بأداء سراج منير، حيث إن هناك نسخة أخرى بأداء فريد شوقي، وكنا حين نزوره يشغل لنا نفس الفلم حتى وإن تكرر الأمر عشرات المرات، والغريب أننا كنا نراه بنفس المتعة التي رأيناها فيه أول مرة. كان، عمي يعقوب، يحتفظ، أيضا، ببعض القصص المشوقة مثل قصص سير الأنبياء وقصص جحا، وكانت هذه الكتب ثمرة عمله في قطر والإمارات زمن الستينيات والسبعينيات. هذه القصص كانت تستهويني فأستعيرها منه وآخذها معي إلى مطرح ثم وادي عدي حيث كنا نسكن في العاصمة، أيضا من ضمن الأشخاص الذي أفدت منهم في سياق القراءات الأولى أخي الأكبر مبارك -رحمه الله- الذي ملأ صالة الضيوف الصغيرة ببيتنا في وادي عدي بمختلف المجلدات، ضمنها كتاب النظرات والعبرات للمنفلوطي، والأيام لطه حسين وكتاب الكشاف في تفسير القرآن، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وغيرها من كتب تختلف عن كتب عمي يعقوب في سرور والتي كانت منسجمة مع مرحلة الطفولة والدراسة الابتدائية، أما كتب أخي مبارك فكانت تتناسب أكثر مع المرحلة المتوسطة في الدراسة، وتعززت هذه القراءة أكثر حين أنشأ أخي مبارك أول مكتبة تجارية في وادي عدي «مكتبة الشروق»، وكان يزودها بالكتب التي يشتريها من دبي، هناك تعرفت على صنوف جديدة من القراءات، خاصة وأن أخي كان يتركني على منصة البيع لمساعدته وقت المساء، ليختفي لشؤونه ولا يعود إلا في الليل وقت إغلاق المكتبة.
جدي أيضا كانت لديه كتبه الدينية المتخصصة في قريتنا سرور، وأتذكر مرة هطل مطر غزير تبعه دخول الماء إلى بيتنا في الليل ونحن نيام، فرأينا كتبه جميعا وهي تسبح، كان الحزن واضحا على محيا جدي وهو يطلب منا نحن الصغار أن نحمل الكتب لنضعها على السطح لكي تجففها الشمس، ولكن المؤسف أن بعضها اختفى منه الحبر. لم أر جدي واجمًا بمثل تلك الطريقة من قبل، وقد اعتاد أن يحمّل أي خطأ أحدا من أحفاده بطريقته التقليدية في التأديب، حين تسبق لسان العصا الكلمة الأولى من حنجرته الغاضبة، في ذلك الموقف العصيب، كان لا يعرف لمن يحمل الذنب، ربما لذلك الجسر الذي بني حديثًا للسيارات حيث صار يتسبب في حجز ماء الوادي ليرتد إلى البيوت بعد أن كان ماء الوادي ينطلق سارحا لتمتصه الأرض الشاسعة. جدي لم تكن تستهويه كتب الخرافة ولا حتى أحاديثها، وكان يقمع كل حديث عن الجن أو السحر في مسجده، وكان يطلبني عند الضحى إلى سبلته المطلة على فلج «بوجدي» لأقرأ له وهو يصوب لي الأخطاء (وما أكثرها)، وذلك بأن يجعلني أعيد قراءة الجملة من جديد مرارا حتى تستقيم. وكان بسبب ذلك الضغط النفسي يمر الوقت ثقيلا أشبه بعقاب، خاصة وأن الكتب التي أقرأها له لا تناسب فهمي وشغفي، ولا يقطع تلك العقوبة إلا دخول أحد الضيوف فجأة وبدون موعد، فأشعر حينها وكأن السماء أرسلته لينقذني، فأنشغل بتقريب الفوالة والقهوة، ثم التسلل هاربا للعب إما وحيدا أو مع من أصادف من رفاق العمر، حيث اعتاد أبي في الإجازات الصيفية للمدارس أن يتركني عند جدي ناصر بن عيسى لكي أساعده. وذات يوم كنت أقرأ سيرة عنترة بن شداد تحت شجرة الأمبا، وهو كتاب ضمن مقتنيات عمي يعقوب، ولا يجب بالتالي قراءته إلا في السر؛ ذلك لأن قراءته بالنسبة لجدي تصل إلى مستوى الجرم. ولم أكن أعرف ذلك بعد. وفعلا صادفني مرة وأنا مكبا أقرأ والكتاب على حجري، سألني بداية عما أقرأ، فقلت له بكل براءة: «سيرة عنتر»، فما كان منه إلا أن سحب الكتاب من بين يدي ولوح به عاليا فوق الشجر، قبل أن يحرك عصاه التي ألهبت ظهري.
متعة القراءات الأولى لا تضاهيها متعة، ربما لأنها تقترن بالطفولة واللعب، أو كما قال الشاعر الألماني فريدريك شيلر: «لا يكون الإنسان كاملا إلا وهو يلعب».
محمود الرحبي روائي عماني