عمان الثقافي

ثلاثة نصوص في رثاء شهد

عذراء حمود -

مواجهة القاع:

معنى أن تكتب في ظروف كهذه: أن رغبة الحياة تتقد في نفسك من جديد. تريد لك أن تنقذ نفسك من موت يكاد يكون محتوما.. لا. قد لا يكون ذلك صحيحا، ربما هو أيضا هروب آخر إلى قعر الهاوية التي تحدق بي على الدوام.. لكن لِمَ قررت أن أهرب إليها لا منها هذه المرة بالكتابة؟ أيكون ذلك بسبب التعب الذي يتكبده المرء من المقاومة؟! لِمَ بدأت أصابعي ترجف بهذه الطريقة المربكة؟ لِمَ تخذلني في لحظة كهذه؟ لا أعلم! كل ما أعلمه الآن وبشكل حقيقي أنني على وشك الجنون. وهذه المرة ليس بحجم الجهل الذي يجعلنا نتألم وإنما بسبب الكم الهائل من المعرفة التي تفوق قدرة الإنسان على الاحتمال. والتي أصابتني دفعة واحدة.. وهنا أقول أصابتني؛ فالمعرفة الحقيقية لا تأخذها، لا تأتيك، وإنما تصيبك وكلما كانت الإصابة بليغة كانت المعرفة عظيمة لحد لا يطاق.. نعم المعرفة تصيبك ولكن ليس كجرح وإنما كالموت. الموت ذلك اللغز الغامض الذي يرعبك بشدة منذ لحظاتك الأولى في الإدراك وطيلة حياتك والذي ترغب فيه بشدة في أكثر لحظاتك تعاسةً وكأنه لم يرعبك للحظة. أن تصاب بالمعرفة يعني أن تخسر كل شيء في لحظة وتحصل على كل شيء في اللحظة ذاتها. أشبه بالألم الذي لا يسمح لك أن تتألم.. هناك ألم في هذه الحياة نابع من عظيم معرفة، وألم لا يسمح للإنسان بأن يتألم. لم أشعره ولم أعشه من قبل: الألم الذي لا يسمح لك بأن تتألم يشعرك أن الشعور بالألم عار. كلما حاولت أن تشعر به لا تتمكن من ذلك. كمن يتنفس تحت الماء بمهارة بالغة وكأن الماء أوكسجين. قبل ذلك كنت أرى في وصف الفيلسوف سيوران للحياة أنه الأكثر سوداوية عندما وصفها بلون الغرق، بينما أرى توصيفه الآن باهتًا ومليئًا بالأمل. ألا ترى في الغرق معاناة أهذا يكفي لوصف اللون الذي أراه. لا تتعجل أيها القارئ هذا ليس توصيفا لشخص يعاني الاكتئاب.. فالمكتئب ربما يرى في اللون الأسود تعبيرا لوجوده وربما لون حياة. بينما لا أرى ذلك.. على العكس تجذبني الألوان المضيئة ولا تخيفني الألوان القاتمة. هل ستتعرف على إحساسي بشكل أدق عندما أعترف لك أنني لم أعد أخاف الأماكن المظلمة لم أعد أخاف العتمة ولا القطط. أصبحت تلامس جسدي دون أن أشعر بشيء كما لو أنني جثة هامدة لكنها تتوق إلى الحياة للحد الذي تستشعر معه بجمال كل ما كانت تخاف منه. مات الخوف من كل الأشياء الساذجة. ولم أعد أخاف من شيء ولا على شيء عدا شعوري الداخلي بالحرية فهو ما يجعلني صامدة أمام كل هذا المشهد الممتد البطيء المجنون والساخر. كتبت عدة أسطر تشي بنهوض عاثر فأنا للآن لم أتجرأ على كتابة سطر عنها. تلك الروح التي كتبت مذكرات لكل من وما يحيطها عداي. أكانت تحبني للحد الذي عجزت فيه أن تكتب عني..! فجل ما كتبته كان أشبه ببصق اللعنات على وجوه قذرة!

16 ديسمبر 2024

مسقط

في حضرة شبح الانتحار:

حدقت في عيني شبح الانتحار للمرة الأولى في حياتي، كان أشبه برجل مسن في التسعين من عمره، يرتدي أسمالا بالية حالكة السواد، يخط جبينه عبارة: «أطفئ روحك لينتصر الموت»، وترتسم على وجهه ابتسامة ساخرة، خاطبني وصوته بالكاد يسمع بسبب تردده الصاخب الذي يحدث تشويشاً قائلاً:

ـ«لمَ لم يقتلكِ فقد ابنتكِ بالانتحار؟»

ـ أجبت: ولِمَ يجب علي أن أموت؟ سأبقى أحارب الموت حتى آخر لحظة في حياتي.

ضحك بصوت أجش وانبثقت منه رائحة أشبه برائحة مجارٍ نتنة

- ثم أردف: «أي موت تحاربينه؟ لا حرب مع الموت. الحرب هي أقصر طريق للموت».

- قلت: إن كان للموت طريق فهو التوقف عن محاربته بالحياة.

رمقني بنظرة مليئة بالحقد وبدأ وجهه يصطبغ بالحمرة وصرخ قائلا: -«سيقتلكِ غروركِ ذات يوم»

-الكبرياء ليس غرورا. والموت ينحني أمام الإنسان الذي لم يتخلَّ عن كبريائه.. وإن مات يموت كبيراً.

- «الغرور هو أن ترددي مثل هذا الكلام ووجهكِ ممرغ بالتراب. أنتِ الآن مجرد مَدُوسة. الجميع يبدي شفقة عليكِ ولكن في دواخلهم يحتقرونكِ بشدة. وهذه الحياة التي تتباهين بها أنتِ مجرد عار فيها. لم تحافظي على ابنتكِ مني وتتحدثين عن الكبرياء؟. يالكِ من امرأة متعجرفة. لا يكسركِ شيء هذا ما تحاولين أن تكونيه. لكنكِ متشظية. حتى المجانين والأطفال يمكنهم أن يلاحظوا حزنكِ وانكساركِ».

-هذه الطعنات السامة لا تكسر ولا تقتل أمثالي. على العكس تجعلني منتصبة القامة بشكل مضاعف. كل الذين أطفأتَ أرواحهم، أنصتوا لصوت طعناتك وصدقوها. وكانت تلك مأساتهم الحقيقية. أما أنا فالشك الذي يكون كحلاً لعين اليقين، والحزن السعيد الذي سيبقى رحماً وجودياً للخلود.

أصدر صوتا لم أفهمه ولم أسمع مثله في حياتي يخالطه صوت طنين ثم صرخ فجأة:

-«ستدركين ذات يوم أنكِ لستِ أكثر من لعنة ونقمة على أحبائك. وستتمنين الموت ولن يسعفكِ. أنتِ دائماً تقابلين الحقائق ببلاهة لكن هذه البلاهة ستسبب أخيراً في جنونكِ».

-البلاهة التي تتسبب بالجنون خير من التسليم بأني مجرد كائن حقير. أن أحيا مصابة بالجنون أحب إلي من أن أموت بجبن.

-«الجبن أن تخافي وتهربي من الموت. والشجاعة أن يختار المرء كيف يموت. لا أن يجعل الموت يخطفه فجأة وهو متعلق بحياة فانية».

-الشجاعة ألا نتمناه حتى وإن كان قدرنا الحتمي، ألا نجعله خياراً، أن يكون ويبقى عدونا الذي يقتلنا واقفين ونحن نحدق في وجهه.

-«دائما ما كنتِ ترددين أنكِ تحبين الفلسفة الرواقية بينما معظم فلاسفتها يمجدون الانتحار ويعتبرونه عملاً بطولياً. ويرى الفيلسوف الروماني بيلينيوس أن الانتحار هو هدية الله الأفضل للإنسان».

-الدرس الأعظم الذي علمتني إياه الفلسفة أن أؤمن بأنني قادرة على التفكير المستقل. وإن تجربتي الفكرية أو الشعورية يمكنها أن تعبر حدود الزمن والعالم، وإنْ كنا نتقاطع مع بعض الأفكار، والمشاعر والأرواح إلا أننا نبقى متفردين. إن كان ثمة فكرة عن الانتحار أتقاطع معها فهي فكرة الفيلسوف شوبنهاور: «الانتحار تجربة-سؤال يقدمه الإنسان للطبيعة، محاولاً إرغامها على إدراكه لطبيعة الأشياء؟ إنها تجربة خرقاء، لأنها تتضمن تدمير الوعي الذي يطرح السؤال وينتظر الإجابة».

تمدد شبح الانتحار للحد الذي ضاعت ملامحه وحجب معه الرؤية ثم لاح منه نور يعكس وجه ابنتي شهد وهي تبتسم. همست بصوت حنون: «أنتِ المعنى الذي كان علي أن أراه وأعيه لينقذني. أحبكِ». ثم غاب وجهها كمشهد الشمس عند الغروب. وتبدد الشبح تاركا رائحة عطرة تفوح في زوايا المكان.

تأبين:

مضيتِ بصمت...

وتركتِنا لضجيج السؤال:

«كيف؟ ولماذا؟» نبحث في التفاصيل عن سبب،

نُراجع الذاكرة علّنا نجد إشارة،

لكن دون جدوى. كل شيء كان محتملاً... إلا غيابك.

لم يكن غياب جسد،

بل انطفاء عالم بأكمله.

في عيني.

غادرتِ...

لكن ليس كما يُغادر البشر بشكل معتاد

لم تفتحي قلبكِ، لم تطلبي نجدة، لم ترفعي صوتكِ في وجه العالم وتصرخي: «لقد تعبت»...

بل اخترتِ الصمت القاتل.

كثيرًا ما كنتِ تضحكين،

وأنا لم أكن أُجيد قراءة الحزن خلف تلك الضحكة،

كنتِ تبدين بخير...

وأنا صدّقتك.

سامحيني...

سامحيني على كل لحظة كنتِ فيها تحت سقف هذا الألم وحدك،

وأنا كنت أظنكِ آمنة، مرتاحة، بخير.

لم تكوني ضعيفة، كما يظن من لا يفهم،

بل كنتِ متعبة...كما أفهم الآن

والتعب حين يطول، يصير أثقل من الجبال وأقسى من الموت.

أفتقدك كل لحظة،

أشتاق تفاصيلك،

نبرة صوتك،

الطريقة التي تنادينني بها،

ضحكتكِ التي كانت تسبق حزنك

وأعزي نفسي بصورك،

وأبكيكِ في صمتٍ يُشبه صمتك الأخير.

لن أقول وداعًا،

بل سأراكِ في كل نور،

وفي كل نجاة للآخرين

وسأحبكِ أكثر مما عرفتِ،

أدعوكِ في صلاتي،

أراكِ في أحلامي،

وأحملكِ معي في كل لحظة كأن لم ترحلي.

نامي بسلام،

يا أجمل وأنبل ما أعطاني الله...

وأقسى ما أخذ. 

عذراء حمود كاتبة ومحامية عُمانية