عمان الثقافي

جغرافيا الحداثة المصرية المقلوبة خارطة المكان المحفوظي بين الصحراء والسجن

 

إبراهيم فرغلي -

من بين سمات الصديق الراحل مهاب نصر اللافتة قدرته على التفكير في شؤون الحياة اليومية من منظور واسع وتحليلي عميق. لا يتوقف عند خبر أو حدث من منطق الالتفات له لأنه مدهش أو غير عادي أو غير متوقع، بل يضعه في سياق معقد يرتبط بظروف من الماضي ونتائجها الراهنة، وهذا كان شائعًا في حديثه العادي اليومي، رحمه الله، وبالتالي فحين يتناول بالكتابة قضية ما لا يقتلها بحثا بقدر ما يتناولها بأكبر قدر من تجاوز الأفكار المستهلكة والكلاشيهية أو السطحية الشائعة في التحليل الثقافي الراهن وخصوصا في مصر.

ولهذا فخبر صدور كتابه «جغرافيا مقلوبة»، عن بيت الحكمة للثقافة في القاهرة، في تقديري الشخصي؛ «حدث ثقافي» لأنه يضم مجموعة من المقالات شديدة الأهمية التي كتبها على فترة زمنية طويلة، وبينها موضوعات كانت موضوعا لمناقشات مطولة بيننا في لقاءاتنا هنا في الكويت، عندما كان مشغولا بتحليل الحداثة المصرية من خلال التمثيل الأدبي للمكان والجغرافيا في أعمال نجيب محفوظ.

وتمثل هذه المقالات ثلث الكتاب الأول تقريبا، وهي ربما التي سأتناولها أيضا في هذا العرض بشكل أكبر من بقية أقسام الكتاب، لأهمية ما تطرحه من أطروحات تتأمل السرد المحفوظي بعين ثاقبة مختلفة وعميقة، وهو ما أزعم كثيرا أننا في أمس الحاجة إليه في ضوء انتشار الكثير من الطروحات التقليدية وربما السطحية التي تناولت الكثير من أعمال محفوظ.

ولا بد في البداية من التنويه أننا ندين بصدور هذا الكتاب، للكاتب الصديق مينا ناجي، واحد من الكتاب الشباب المستنيرين وأصحاب العقول الفلسفية والذي جمعته بمهاب علاقة طويلة تبادلا خلالها النقاش والجدل حول موضوعات كثيرة، ومن حسن الحظ أن مهاب كان يرسل لمينا تقريبا كافة المقالات التي يكتبها أولا بأول مما أسهم في تيسير جعل مهمة مينا في تجميع المقالات، وأغتنم الفرصة لأوجه له كل الشكر. مع الإشارة إلى أن هذا هو الكتاب الثاني لمهاب نصر الذي يبادر مينا ناجي بجمع وتنسيقه وتحريره بعد كتاب «على حافة النوم الكبير» الذي ضم مقالات عن السرد في الأدب المصري.

منظور ثقافي

أما الكتاب الذي نتناوله هنا فله اهتمام بفكرة الحداثة المصرية من منظور ثقافي كما سبق؛ وهو مقسم إلى ثلاثة أبواب، الأول يهتم بتمثيل المكان لدى بنجيب محفوظ، بينما يضم القسم الثاني مجموعة مقالات تهتم بفكرة الحب من منظور ثقافي، والثالث يهتم بفكرة الجسد.

ووفقا لما يشير إليه مينا ناجي في تقديمه للكتاب فإن مهاب في نصوص الباب الثاني يشير إلى تشابه سلطة الحب مع السلطة الذات، الذي يفتقر إلى تاريخ يؤسسه، بل أنها مثله «كانت مرتهنة بنظام عالمي وقيمي ألقيت فيه دون أن تكون جزءًا فعليًا منه»، وبالتالي هي بلا موضوع فعلي، بل فقط خيالات مبتورة ليس مكانها الحياة الواقعية. ثم يتتبع في عمق بصيرة وضع المرأة ورمزيتها في مجتمعاتنا، بصفتها السلطة النهائية، والرمز الكلي الذي يعيّن الأدوار ويطرح خصوصيته كأمر لا يُمس، لأنه جوهر الهوية البيت). في وضع تاريخي يجعل من مسألة الهوية أزمة ومركزًا. ويبحث عن مكان الحب» في مجتمعاتنا، وكيف يوطن نفسه ويظل هذا مستحيلاً و«خياليًا» (بالمعنى اللاكاني)، وبذلك يكون موطن الشطحات مع والتحريم معا.

أما في الباب الثالث فيوضّح أن إحدى الأفكار الأساسية للديمقراطية المعاصرة هي الحق في التعبير، وهذا الحق في سياق الجسد يجيب عن سؤال خاطئ، فليست قضية الجسد أن يعبّر، بل هناك بالأساس رغبة تسعى إلى الإشباع، رغبة في الآخر تحديدًا، الذي بالمنطق نفسه علينا أن نقر له بالحق في التعبير. والدعوات المنتشرة والمهيمنة إلى التمتع بالجسد شيئته، بل جعلته يبتلع الذات»، لتجعلها حصنًا حساسًا من أي ملامسة أو تعرض، ما يظهر في موضوع مثل التحرش الذي جعل الجسد بفعل دعوات الحق في التعبير عنه هو الذات نفسها، وبالتالي تتم إهانته حين يتم التعامل معه كموضوع.

تمثيل المكان أدبيا

أما فيما يتعلق بتمثيل محفوظ الأدبي للمكان فقد احتل الباب الأول وقسمه مينا إلى عدة دراسات هي الجغرافيا المقلوبة، مأزق الجنون الجماعي، أنثروبولوجيا الحب والكرامة، حضرة المحترم..البيروقراطية الماجنة.

يبدأ مهاب تأملاته من اختبار مقولات سادت عن أعمال محفوظ، بينها فكرة أنه يقدم المكان بشكل تفصيلي دقيق، وأنه كاتب ينتمي للمدرسة الواقعية، فيما يقدم رصدا للمكان كما تناوله محفوظ في أغلب أعماله، ولا يجد أن هذه السمات التي تم الاتفاق والإجماع عليها، ليست فقط غير دقيقة، بل وربما تؤدي إلى قراءات مغلوطة.

يشير مهاب مثلا أنه لسبب ما، لم يكن محفوظ كاتبًا قاهريًا فحسب، أو كاتب القاهرة، لكنه إمعانا في التخصص ظل طويلاً كاتب الجانب الشرقي منها، «فمعظم أعمال محفوظ الروائية والقصصية تدور في هذا الركن بالذات من العاصمة، المحتشد بالتاريخ والملوث بطعم الرمال. قد يلجأ إلى حدود المقطم، أو يهبط إلى حلوان، أو يصعد باتجاه الدراسة، أو يشرق باتجاه صحراء العباسية، لكن تبقى حدود الحدث الروائي غالبًا، قديمه وحديثه بين أحياء هذا الضلع المكتنز. هنا تقع أحداث رواياته الواقعية المختومة بالثلاثية، باستثناء القاهرة الجديدة، وهنا أيضًا تدور حكايات «الحرافيش»، و«اللص والكلاب»، و«الطريق»، و«حضرة المحترم»، و«أفراح القبة»، و«عصر الحب»، و«قشتمر»، و«الباقي من الزمن ساعة»، وغيرها».

جغرافيا طبقية

ثم يرصد جانبا جغرافيا آخر مثل خارطة المكان المحفوظي في روايات أخرى يرى أن مبرراتها في الأغلب طبقية، أي نوع الطبقة التي يتناولها محفوظ في هذا العمل أو ذاك فيقول:

« قد يعبر الحدث إلى الضفة المقابلة متتبعًا، إما نوعًا من البرجوازية الناشئة عن استغلال النفوذ والفساد «القاهرة الجديدة مثلاً)، وإما تلك الخارجة عن نسيج الروح العامة للمكان الوطن باعتقاد محفوظ )، وإما مسايرا التطور العمراني الذي تشهده المدينة بالفعل حين تلجئه المحاكاة الواقعية إلى مرافقة الطبقات الجديدة في هجرة بعضها إلى الضفة الغربية للنهر، بما في ذلك منزله نفسه المطل على كورنيش العجوزة. وحتى على هذا الجانب الغربي تظل الحدود المرجعية هي صحراء الهرم».

يتتبع نصر مواضع استخدام محفوظ للصحراء، والتي يرى أنها تحيط بالقاهرة، لكنها تمثل رمزيا إما السجن، كما جاء تفصيلها في قصة من قصص «الشيطان يعظ»، أو في جولة مجموعة أصدقاء العوامة في المرة الوحيدة التي خرجوا فيها معا إلى صحراء الهرم، وفي مشوار جمع رشدي عاكف مع حبيبته في خان الخليلي أو أن تكون ممثلا لما يسميه محفوظ «الخلاء» كمكان خارج المركز، مأوى للمهمشين أو المطرودين كما في الحرافيش مثلا.

تاريخ المدينة المحفوظية

«حين نستكمل رحلة تاريخ «المدينة المحفوظية»، إن كان ما يقدمه محفوظ هو التاريخ حقا، نجد أنفسنا مندهشين أمام الصورة النهائية لها، مقارنة بما يشاع عنها من أنها تمثل تاريخا واقعيًا، اجتماعيًا وسياسيًا، للمجتمع المصري، أو على أفضل تقدير القاهري، فأي مدينة معاصرة تلك التي تنشق حواريها عن أساطير، وتستعمر ليلها الأشباح والضمائر المثخنة وعيون أجهدها الحشيش والتبتل والغرام المتهالك؟ وأي جغرافيا غرائبية تلك التي أحاطتها بعواصف من غبار الأسئلة، وصحراء العدم الشاسع؟»

يتأمل مهاب نصر الاستخدامات المتباينة للصحراء في أعمال محفوظ، والتي يرى أنها تتغير في وظيفتها لكنها لا تتغير كثيرا في دلالتها.

وفي رصده لجغرافيا أعمال محفوظ يلاحظ مهاب أن كل مكان خارج حدود «العاصمة» أي القاهرة هو محل للاغتراب، وفضاء خاو، والحياة فيها مجمدة بلا أمل إلا من اجترار الخيبات والندم، ويستدل على ذلك بعدد من فقرات روايتي «ميرامار» ثم «الشحاذ» التي تضم الأولى مجموعة من النازحين إلى الإسكندرية، والثانية يذهب فيها البطل عمر الحمزاوي ليحاول إيجاد علاج لحالة ضجر وإحساس باللاجدوى بلا علاج. وفي الحالتين يرى الأبطال أو يمارسون ما يؤكد تلك النظرة إلى الإسكندرية.

شائعات نقدية

ويعود نصر إلى بعض دراسات الناقدة المخضرمة سيزا قاسم التي كانت ترى أن أعمال محفوظ أيضا لا تثبت صحة ما شاع من أن تسجيل محفوظ للقاهرة التاريخية، بتفصيل حاراتها وأزقتها وعادات أهلها، موضحا أن مثل هذه الإشاعة تحتاج إلى إعادة نظر، وأن سرد محفوظ، حتى ما ينسب منه مباشرة إلى الواقعية، فقير في تفاصيله. ويعود إلى إحصاءات قامت بها سيزا قاسم لتقييم «المعجم الوصفي» لمحفوظ لتقول إنه معجم فقير. تجد فيها تكرارا لنفس العناصر مثل البيوت والحجرات التي تظهر في نفس الشكل وعلى نفس الطراز، وأن ثمة تعميما مفرطا ومجردا في وصف تفاصيل محتويات البيوت، وهي سمات تبتعد عن الخصائص المميزة للواقعية.

ويرى مهاب أن محفوظ كان مشغولا بالتطورات الاجتماعية والطبقية فكريا، من دون الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة التي يمكن أن تشرح هذه الفوارق والاختلافات فنيا، أي على مستوى تفاصيل لها علاقة بوصف المهن، أو وصف أنواع الطعام، أو محتويات البيوت المختلفة، وبالشكل الذي يتيح لها أن تعبر عن الخلفية الطبقية لسكانها بدقة فنية.

ويرى أنه إذا كانت الواقعية الأوربية معنية بالمكان المفتوح، على أفق التغيرات والتفاعلات المستمرة مع أفراد يعيدون تشكيل عالمهم الخاص داخل مجتمع يزدادون عنه اغترابا فإن واقعية محفوظ ترصد المكان على هيئة فخ أو مصيدة، وأما الخروج منه فهو الموت المحقق. وأن السقوط حليف كل محاولة للإفلات من المكان (نموذج حميدة، في زقاق المدق، بين نماذج أخرى).

ولهذا يرى نصر أن محفوظ استخدم المكان كديكور، وتعامل مع الشخصيات الروائية كما لو أنها تعيش على مسرح. وهذه فكرة تحتاج لمزيد من التوضيح. ووفقا لما فهمته فهو يرى أن ثمة «مأزقا» ثقافيا مصريا عاما يتعلق بفهم فكرة الوطنية.

ويستند إلى أفكار أوردها صبحي وحيدة كتابه «أصول المسألة المصرية» الذي يرى أن النخبة الوطنية التي تصدّت للمسألة المصرية كانت خليطًا من ملاك الأراضي وخريجي المدارس الحديثة، خصوصًا المحامين والأدباء والطلبة. لكنه يعتبر أن تعامل هذه الصفوة مع القضية الوطنية اتسم بالسطحية، إذ نظروا إليها كمسألة إقناع ودعاية صحفية أو مساعٍ شخصية، أكثر منها قضية كفاح شعبي من أجل الاستقلال. وبهذا، انخفضت القضية من مستوى صراع وطني بين شعب يسعى إلى التحرر وقوة استعمارية تريد السيطرة، إلى مجرد منافسة سياسية بين أفراد طامحين وممثلي الاحتلال، يعتمدون غالبًا على علاقاتهم الشخصية أو على تحريك تيارات شعبية مؤقتة لا جذور لها في المصالح العامة.

أصول المسألة

ففي غياب هذا المجتمع الواعي بمصالحه، نشأ المجال الأدبي الحديث كاستكمال لمظاهر الحداثة المدنية من جهة، ومن جهة أخرى كترجمة أدبية للفكرة الوطنية من قبل منتجيه غير السياسيين، مع بروز فكرة التخصص النسبي في غياب مجتمع حقيقي، كانت الصيغة الوطنية تمثل الركيزة الأساسية لشرعنة المجال الأدبي الذي صار يمثل ما يشبه الضمير السياسي حينما ينجرف السياسيين عن مسارهم الوطني.

ويرى مهاب أن الرواية، دخل وضع كهذا تصبح في أزمة حقيقية، وربما كان الوضع المسرحي حلا بطريقة ما لمشكلة صناعة مكان أراد أن يطابق بين التاريخ الروائي والواقع الوطني.

ثم يتناول رواية رحلة ابن فطومة لدراسة الكيفية التي تناول بها محفوظ الآخر؛ موضحا أنه قدم في النص صورةً للآخر بدلاً من الوطن، حيث يتعرف البطل على العالم من خلال الكتب فقط، وليس الرحلات الواقعية. وأن الفانتازيا تمنح محفوظ حرية تصوير عالم متخيّل، دون الالتزام بوصف دقيق للملامح الإنسانية أو الحضارية الواقعية. من خلال هذه الخريطة المتوهمة، يقسم الكاتب العالم إلى أقاليم تمثل مشاريع حضارية متباينة، تلمح إلى الغرب الليبرالي القديم، والولايات المتحدة العدوانية، والمعسكر الشرقي.

ويقول موضحا: «والحقيقة لا يفعل محفوظ أكثر مما يفعل المفكرون العرب أنفسهم، فحين كان يكتب أحدهم عن التيارات السياسية أو حتى الفكرية في العالم العربي، كان يقسم فصول الكتاب هكذا: القوميون، اليسار، الليبراليون، الأصوليون. يناقش كتبا أصحابها يجلسون وراء مكاتب تشبه إلى حد بعيد مكتبه، وأفكارهم: إن كانت أفكارهم حقًا، لا وجود لها إطلاقا في الممارسة السياسية اليومية. يتجاوز كباحث كل معطيات الحس المباشر، يتجاهل النقص الرهيب في الوثائق والمعلومات، والذي يشكك في طبيعة أي نتيجة للبحث. إن عينه إلى الداخل، تماما كالجغرافيا السياسية لوطن ينظر إلى الداخل، دون أن يرى شيئًا بالطبع إلا فكرته المسبقة عن نفسه».

إن هذا الجزء من الكتاب في تقديري يقدم تناولا مختلفا في مراجعة بعض الثوابت المستقرة في أدب نجيب محفوظ من خلال إعادة تأملها نقديا، لأجل بحث مزدوج لكل من فكرة الحداثة الأدبية المصرية من جهة، وعلاقتها برصد الحداثة المأزومة في المجتمع المصري من جهة أخرى، وهي لا تقتصر على محفوظ كما أشرت في بداية هذا العرض للأفكار الأخرى التي يستكمل بها مهاب فكرته عن هذه الأزمة وطبيعتها، غير أن الكثير من أفكار الكتاب تتسم بالتركيب ما يجعلها في حاجة لقراءة متأنية.

لكنه كتاب ضروري لأنه يفتح الباب للتفكير والتأمل في الكثير من القضايا التي لا أظنها تخص المجتمع المصري فقط بل تمتد إلى الكثير من مثائله في العالم العربي.

إبراهيم فرغلي كابت وروائي