التعليم والجيل الثالث
الاثنين / 29 / ربيع الأول / 1447 هـ - 21:05 - الاثنين 22 سبتمبر 2025 21:05
بداية سبتمبر الجاري بدأ أبناؤنا عامهم الدراسي الجديد، وفيه دخلت حفيدتاي سارة ونور الصف الأول الأساسي، وبهذا شهدتُ ثلاثة أجيال من التعليم الحديث: جيلي الذي بدأ تعليمه منتصف السبعينيات الميلادية الماضية، ثم جيل أبنائي أواخر التسعينيات، والآن جيل أحفادي. ثلاثة أجيال يشكلون ثلاث مراحل من التعليم الحديث في سلطنة عمان، ورغم أنَّه حادث في زماننا، لكنه شهد إقبالاً كبيراً، نعم؛ كان هناك توجس من النظام الجديد مقارنة بما عليه الناس حينها؛ فقد كان التعليم قائماً على القرآن، وفجأة تعددت مقرراته، وتنوعت أنشطته، وأصبحت التربية الإسلامية مادة من مواده فحسب.
تَوَجَسَ جيلُنا أيضاً؛ فقلق على أبنائه بظهور الإنترنت خشية أنْ يفسد الانفتاح تعليمهم وأخلاقهم. وها هم الآن يمسكون أعمالهم، ويديرون مجتمعهم، فتزوجوا وأنجبوا ودخل أولادهم المدرسة، ولم نَشْكُ شيئاً في علمهم ولا من أخلاقهم، بل نراهم قد أفلحوا في أعمالهم، واستقاموا في معاملاتهم.
واليوم ونحن نرى أحفادنا تتطاير خطاهم خفافاً إلى المدرسة كسرب طير يهيم في سماء مفتوح؛ لدى آبائهم توجس من الذكاء الاصطناعي، وهذا ليس حصراً على مجتمعنا، وإنَّما على مستوى العالم. لقد استمعت إلى مختصين في التعليم والتقنية يبدون قلقهم من «تدهور العملية التعليمية»، وما قد يستتبعه من ضعف في الفرد، وخلل في المجتمع. وسوف يأتي الجيل الرابع، وينظر سلفُه إليه كما نظرنا نحن إلى خَلَفِنا، ولم يحدث ما توهمناه؛ فالحياة أيضاً تفرز معالجتها للمشكلات التي يعيشها الناس.
هذا القلق على الأجيال الناشئة قديم قرأناه عند معلمي سومر وحكماء الهند وفلاسفة اليونان وأدباء العرب. ولا يعني هذا أنْ نُسْلِمَ أولادنا إلى الزمن يخبط بهم خبط عشواء، بل علينا أنْ نضع خططنا واستراتيجياتنا للتعليم، ومعالجة ما قد يظهر من مشكلات غير معتادة وتحولات غير حميدة؛ فهذا هو السير الصحيح للحياة. المقال يُوصِّف عصر أحفادنا وهم يعيشون طراوة عقولهم؛ لنساعدهم عليها حتى يصلب عودهم، ويقووا على مواجهة الأوضاع بأنفسهم. إنَّ من طبيعة هذا العصر:
- التشظي: الذي يطال كل شيء من الطفل إلى الشيخ، ومن الفرد إلى الدولة، ومن الفن إلى العلم، ومن المسلّمات إلى البراهين. هذا الوضع إنْ كنا نعيش بوادره وقد مرت علينا -نحن الكبار- كثير من التجارب؛ فإنَّه سيواجه أطفالنا بشدة في فهمهم وأخلاقهم ومعاملاتهم، فليس هناك شيء أصعب من التعامل مع حالة التشظي الإنساني الشامل.
- شيوع أدوات التواصل الاجتماعي: جيلنا في مبتدئه لم يكن لديه أداة تواصل مع الناس إلا مباشرةً، ولأنَّ المجتمع محدود في حركته؛ لعدم توفر وسائل النقل والتواصل إلا قليلاً؛ فقد كان مصدر معرفتنا الأسرة والحارة والمدرسة، فلا تلفزة ولا إذاعة ولا صحف، بل إنَّ الكتاب محدود انتشاره، وأغلبه محصور على المقررات الدراسية، وعين الرقيب الأبوية لا تأخذها سِنة ولا نوم؛ حدباً علينا، وخوفاً من تأثر تعليمنا، وتغيّر أخلاقنا.
في جيل أبنائنا حدثت قنوات التلفزة الفضائية، ولكيلا يضعف تعليمهم ويفسد سلوكهم؛ فرضنا حظراً على دخول الصحون اللاقطة إلى بيوتنا، حتى نضجوا وأوشكوا على الانتهاء من الدراسة الأساسية. أما جيل اليوم فيدخل المدرسة وأدوات التواصل أعينه الساهرة، وعقوله الفارغة تغذيها معرفة غير معروف مصدرها، ولا محدود تأثيرها مكللة بالذكاء الاصطناعي. لم يعد ممكناً حجر الوالد ولده في قمقم العزلة مُسهداً عينيه في مراقبته، ولذلك؛ فإنَّ التبعة عظيمة على المؤسسة التعليمية في وضع الاستراتيجيات الكفيلة بالحفاظ على الناشئة خُلُقاً وعلماً ومهارةً؛ ولاءً لوطنها وتقديراً لإنسانيتها، ليس بعزل الطفل عن بيئته، وإنَّما بإيجاد استراتيجيات قادرة على تربية إنسان سوي سلوكاً منتج مجتمعاً.
- متحوّل بسرعة الضوء: وهذه ليست عبارة للمبالغة، بل واقع نعيشه؛ فانتقال الحدث والمعلومة أصبح لحظة بلحظة صوتاً وصورة. ولأنَّ العالم كله يرمي بمنتجاته السليمة والسقيمة في رأس الإنسان؛ فالتغيّر غير مُسيطَر عليه، وإنْ لم توجد آليات لترشيد الطفل فيما يستقبله من معلومات فإنَّه يصاب بـ«سرطان رقمي»..إنَّه مرض ينهش النفس، وينخر في المجتمع لا يقف ولا يمكن إيقافه؛ فهو بحاجة إلى «مستشفيات متخصصة» لعلاجه، وهذا ليس ترفاً، وإنَّما واجب ديني وأخلاقي، بل ووطني وإنساني.
- تَغَوَّلَ فيه نظام التفاهة: هذا النظام الذي لا يقتصر على تخريب الالتزام الأخلاقي، وتشويه البُعد الجمالي، وطمس العمق النفسي في الإنسان، وإنَّما يصيب كل المرافق الحيوية. إنَّ هذا النظام -في أقل سلبياته- ينحّي المبدعين والمفكرين عن مواقع صناعة الحياة، وبناء المجتمعات، واتخاذ القرارات الصحيحة والحكيمة في الدول والمؤسسات. إنَّ نظام التفاهة بحسبما بيّن منظّرُه الكندي آلان دونو يقوم على عدم المبالاة في مختلف أوجه الحياة، وفي مقدمتها التعليم. ولذلك؛ لا تعليم حقيقياً ما لم يقم على مواجهة نظام التفاهة، ونَظْمِ الجيل القادم في نظام جاد مواكب للتحولات الكبرى.
المقال ليس مع الجمود ورفض معطيات المدنية، فهذا لا يقول به إلا من يعيش خارج الزمن. إنَّما يحاول فهم التغيرات المتسارعة التي تحصل الآن، وانعكاسها على جيل أحفادنا ومجتمعهم، ووضع التجربة التي مررنا بها موضع الاعتبار لدى متخذ القرار. إنَّ محاولة الفهم تدعونا ضرورةً إلى النظر في العملية التعليمية؛ بكونها الأساس لتنشئة الأجيال في كل العصور ما يستلزم أنْ نكون عيناً وقلباً للجيل القادم، ومن حقه علينا أنْ نسهم في بنائه؛ كل أحد من دائرة علمه وخبرته.
إنَّ ما يلزم العملية التعليمية للجيل القادم هو النظر إليها بعين مختلفة تماماً عمّا مضى من الأجيال، وما ينبغي أنْ تحافظ عليه هذه العملية للمرحلة القادمة هو الغرس الأخلاقي في السلوك القائم على تربية النفس وتهذيبها، وليس التصدّر الاجتماعي، والبروز الجماهيري. وعلى بناء مقاصد الدين، ونفخ روحه في صدور الجيل، وليس سك بشر مقلِّدين يعطلون عقولهم التي أنعم الله بها عليهم، ويذرون وراء ظهورهم حقائق الإسلام وحكمته وتربيته. وعلى إيجاد طرق عملية لتهيئة الطلاب لأجل تعاملهم مع المستجدات آخذين في الاعتبار أنَّ العصر القادم هو الذكاء الاصطناعي بكل تجلياته وتحدياته.
إنَّ كل ما مرت به البشرية يختلف كليةً عمّا هو آتٍ؛ إنَّنا حقاً نشهد انسلاخ العالم القديم وولوج عالم جديد. لن تبقى المدرسة بشكلها الحالي، وقد يُستغنى عن المؤسسات الأكاديمية. إنَّ استغراق الطالب في المدرسة 12 سنة، ثم في الجامعة أربع سنوات أو أكثر بات محل نظر. قد لا تحتاج الأجيال القادمة كل هذه المدة؛ حيث تصبح مهيأة للتعامل مع الحياة دون ذلك، وأما طلب العلم ذاته فلم يعد محصوراً على سنوات محددة ومقررات بعينها؛ لقد غدا -حقاً- (من المهد إلى اللحد).
هذا لا يعني الانتقال من زمن ماضٍ إلى زمن آتٍ بين عشية وضحاها، ولكن أيضاً التحول لا يسير ببطء الأزمنة الماضية، وهنا تكمن الصعوبة ما تستلزم تفكيراً واعياً حكيماً، وتنفيذاً سريعاً محكماً؛ فكل يوم يمضي دون تحسين في العملية التعليمية مؤثر سلباً على مستقبل أجيالنا القادمة.
مسك الختام توجيهات مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق -أدام الله مجده-: (تربية الأبناء لا تتم عبر شبكات التواصل. تربية الأبناء هي جزء من أصل المجتمع العماني عندما يتشرب أبناؤنا بعاداتنا تقاليدنا. والتمسك بالأسرة والمجتمع سبيل نجاح المجتمع. والتقنية بأصلها لخدمة البشرية، ولكن -مع الأسف- استغلت بطريقة سلبية جداً، وأثرت على النشء ليس في بلدنا؛ كل أنحاء العالم يعاني منها، لكن علينا أنْ نحافظ على إرثنا، على ترابطنا الأسري، على تربية أبنائنا وبناتنا التربية الصالحة)، فلنعمل على ترجمتها عملياً.
خميس العدوي كاتب عُماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين».