أفكار وآراء

حركة مقاطعة الاحتلال

أوضحت قمة الدوحة الأخيرة حدود المسار السياسي الإقليمي وسط موازين القوى الدولية وحسب قواعد اللعبة الغربية، والأمريكية، للمنطقة، وبهذه النتائج نعود للمربع الثاني، إذا كان المربع الأول هو الحروب العربية الإسرائيلية، والمربع الثاني هو المربع المأزق الذي ما يزال يهيمن كما يبدو على الوضع السياسي العربي والإسلامي، والذي لا ينتج غير اليأس والسخط الشعبي، مع ذلك لا يزال الأمل يأتي من جهة أخرى، وليس من جهة القوة العسكرية والسياسية هذه المرة، وهذا ما يغير قواعد لعبة القوى الدولية وموازينها وحساباتها.

في نفس الأسبوع قادتني الصدف للتعرف على حركة شبابية عمانية تحت اسم مدد، وهي الحروف الأولى من كلمات: مقاطعة، دفاع، دعم، وتشمل مجموعة من الشباب والشابات العمانيين الطموحين الذين يعملون لضم المؤسسات والهيئات المدنية في عمان إلى حركة مقاطعة الاحتلال العالمية والتي تعرف اختصارًا بـBDS، وهي الحروف الأولى من كلمات المقاطعة Boycott، وسحب الاستثمارات Divestment، والعقوبات Sanctions، وهي حركة عالمية رائدة أسسها عمر البرغوثي في رام الله، جنبًا إلى جنب مع حركة الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية الثقافية لإسرائيل المعروفة اختصارًا بـPACBI، منذ عام ٢٠٠٥م، وقد تمكنت الحملتان عبر العشرين عامًا الماضية من تحقيق تأثير ملموس وكبير وملهم في تفكيك سردية دولة إسرائيل وكشف حقيقتها كدولة عرقية، تنهض على الفصل والممارسات عنصرية وتنتهك أبسط حقوق الإنسان وتنتهج التطهير العرقي والإبادة، ومن ثم ضرورة العمل على مقاطعتها على كافة الصعد..

ومع أن النهج العام لإطار عمل هذه الحركة مستمد من نجاح حزب المؤتمر الوطني الجنوب أفريقي في إسقاط نظام الفصل العنصري البائد في التسعينات من القرن العشرين، فإن العمل الفلسطيني في هذا الإطار يمكن إعادته بشكل خاص وحاسم إلى أعمال المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، ويعود الناشطون في هذا المجال إلى الاستناد إلى مقالة إدوارد سعيد عام ١٩٨٢م (الإذن بالرواية) وهي التي يدعو فيها إدوارد سعيد الفلسطينيين إلى العمل على إنتاج روايتهم الخاصة وسرديتهم الشخصية مقابل هيمنة الرواية الإسرائيلية، وقد تكلل ذلك الجهد بأعمال كثيرة داخل وخارج فلسطين وإسرائيل على حد سواء، على الصعد التاريخية أو التوثيقية المعاصرة، وشيئًا فشيئًا بدأ العمل يؤتي ثماره على أرض الواقع، عبر فضح مجموعة الأكاذيب والأطر النظرية المتهافتة التي عمل الغرب وإسرائيل على إحاطة القضية الفلسطينية بها، وبذلك جرى تجريد النظام الإسرائيلي من سرديته، وكشف الوجه الحقيقي للنظام العنصري، وللاستعمار الاستيطاني الذي يقوم على مواصلة جرائم الإبادة والتطهير العرقي والتهجير القسري.

عبر هذه الرواية الجديدة والسردية استطاعت حركة مقاطعة الاحتلال BDS خلال عقدين من عمرها أن تحشد الأصوات المختلفة ضد إسرائيل وانتهاكاتها، كما وتمكنت من ضم هيئات وتجمعات ومؤسسات في شتى بقاع العالم، خاصة في إطار الطلاب والأكاديميين والمثقفين والفنانين، إلى حركة المقاطعة العالمية للاحتلال، والأهم من ذلك كله هو أنها أعادت تنصيب الأمل في الوقت الذي عملت فيه إسرائيل وأمريكا وحلفائهما بالقوة العسكرية الغاشمة على ترسيخ اليأس.

هكذا تمكنت الأجيال المعاصرة في العالم أجمع، وليس في فلسطين وحدها، من تكوين صورة واضحة بماهية إسرائيل، كما وأصبحت مكشوفة لعبة التوازنات والمصالح السياسية والاقتصادية التي تكبّل السياسيين في الشرق والغرب من اتخاذ مواقف حازمة ضد إسرائيل، وهي عقدة عالمنا العربي والإسلامي كذلك كما هو واضح من قمة الدوحة، وفي نفس الوقت تمكنت الحركة من إيجاد طريق آخر مفتوح غير الطرق المسدودة، وبالوسائل السلمية، من أجل بث وإنتاج الأمل في ضرورة مقاطعة التخلف الإسرائيلي عالميًا بكافة الأشكال، وإبراز واحترام وتقدير الحق الفلسطيني في أرضه بشكل لا يقبل المساومة.

وجاء الدليل الأكبر على عمق آثار هذه الحركات المقاومة ليس فحسب من الشبكة الواسعة عالميًا التي انضوت تحت هذه الحركة العالمية ضد إسرائيل فحسب، بل كذلك من ردود الأفعال داخل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية تجاه هذه الحركات، والتي حاولت التقليل عبر الدعاية من أثر حركة المقاطعة، ومن نتائجها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ولو كان الأثر كما تشيع إسرائيل وأمريكا لما وجدنا الولايات المتحدة تتحول اليوم إلى دولة بوليسية قمعية، فضلًا عن إسرائيل بما هي دولة عسكرية أساسًا، وهكذا تحت إدارة ترامب تحولت أمريكا إلى دولة تقمع الحريات وتضيّق حرية التعبير وتطارد خاصة النشطاء المناصرين لفلسطين، وتلاحق طلاب الجامعات والأكاديميين والإعلاميين وغيرهم لمنعهم من التعبير عن دعمهم ومناصرتهم للقضية الفلسطينية، سعيًا لإسكات الاستنكار الشعبي المتنامي لجرائم الإبادة والفصل العنصري الممنهج التي ترتكبها إسرائيل، وحسب المؤرخ المعروف إيلان بابيه فإن العقل المدبر لحركة المقاطعة الشاملة، خاصة في الأوساط الأكاديمية، هو حركة مقاطعة الاحتلال BDS.

هكذا بدأت تبرز كثير من الأصوات الناقدة والمعترضة، وحتى من الهيئات والمؤسسات الأممية خاصة، والتي تعمل على فضح وإدانة النهج العنصري الإسرائيلي، ولا أدل على ذلك من تقرير لجنة التحقيق الأممية الأخير تحت رئاسة نافي بيلاي والذي نشر الأسبوع الماضي وخلص إلى إدانة إسرائيل بارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، وهذا بأجمعه ينسف السردية التي حرصت إسرائيل على إشاعتها دومًا حول حربها على حماس والإرهاب.

واليوم تلاقي حركة BDS التفافا عالميًا عبر شبكة من المنظمات والجمعيات المختلفة التي انضوت تحت لواء الحركة نفسها، وشكلت تيارًا واضحًا خاصة في الغرب، وتمكنت من بناء قاعدة شعبية متنامية للضغط والمطالبة بالحقوق الفلسطينية، وكل ذلك يفتح الآفاق المعاصرة للإنسان، ولقضاياه المعاصرة، ويعيد تنصيب القضية الفلسطينية والمشكلة الإسرائيلية في مواقعها الصحيحة من العالم، ولعل أهم ما في مبادئ حركة مقاطعة الاحتلال هذه هو تأكيدها على حق العودة، ذلك الحق الذي أغفلته وأهملته اتفاقيات أوسلو، وهي الاتفاقيات التي أثبتت فشلها اليوم، ويمكن التعرف أكثر على تأثير حركة مقاطعة الاحتلال BDS وعلى فلسفتها ومبادئها عبر موقعها الإلكتروني bdsmovement.net بما في ذلك مبادئها الأساسية وهي إنهاء احتلال الأراضي العربية وهدم الجدار، والاعتراف بالحقوق الفلسطينية كاملة، وحماية واحترام حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهي الأهداف التي تعمل عليها الحركة.

لا شك إذًا أن مما يثلج الصدر وجود شباب عمانيين يتطوعون من بيننا لنشر أفكار ومنهج حركة مقاطعة الاحتلال، وهو منهج مقاومة سلمي طويل المدى ولكنه فعّال، ويعملون بالتالي لدعوة الشركات والمؤسسات الأكاديمية والثقافية والفنية والرياضية والاقتصادية المختلفة في عمان للمساهمة في إطار الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل، وفق الأطر القانونية والسلمية، ومع أن الشعور الشعبي العام معنا في عمان ضد التطبيع مع إسرائيل إجمالًا، خاصة إذا تذكرنا الموقف المشرف لانسحاب نادي العامرات العام الماضي من بطولة دولية يشارك فيها ناد إسرائيلي، إلا أن الانخراط العماني المدني في اتفاق عالمي مدني وميثاق معلن هو مبدأ حضاري يجعل الجهود أكثر تركيزًا وأثرًا في إطار عالمي شامل ضد الظلم، من أجل فلسطين حرة.

إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني