حضور الشعر العربي في موسوعة «قصة الحضارة»
السبت / 27 / ربيع الأول / 1447 هـ - 16:26 - السبت 20 سبتمبر 2025 16:26
تعرَّفت على موسوعة «قصة الحضارة» للفيلسوف والمؤرخ الأمريكي «ويليام ديورانت» لأول مرة مع بدايات عملي الصحفي. كانت ضمن مكتبة صغيرة ملحقة بالقسم الثقافي بصالة تحرير جريدة عمان، وكنت أرى أجزاءها المتعددة تشغل رفًا كاملًا، وكلما نظرت إليها تساءلت مع نفسي: في بحْر كم من الزمان قطع كاتبها حتى أنجز موسوعته هذه؟ حتى علمت أنه أنفق لها من عمره 40 عامًا. إنها بلا شك كتاب العُمْر. سرد فيها أجمل قصة كُتِبَت حديثًا في تاريخ الحضارات.
ومن حسن حظ هذه القصة «الديورانتية» أنْ تَرْجَمتها إلى العربية عقول أدبية ومفكِّرة كبيرة، وهم د. زكي نجيب محمود، ومحمد بدران ود. عبدالحميد يونس ود. فادي أندراوس أنجزت ترجمتها بجدارة، وكأنها صيغت بقلم عربي، وليست مترجمة إلى العربية. وهنا تكمن عبقرية الترجمة؛ فما لم يكن المترجم أديبًا ومفكرًا، وملمًا باللغة التي يترجم منها وإليها لا يأتي كتابه بذلك الذوق الرفيع الذي يشعر به القارئ من القراءة الأولى.
ولا أسهب كثيرًا في تقديم كتاب مشهور جدًا؛ فكتاب «قصة الحضارة» معروف لدى القارئ العربي منذ أكثر من نصف قرن، خاصة وأن طبعته الأولى صدرت مع بداية عقد الخمسينيات الماضية من القرن العشرين، لكن ما شدني فيه هو الكثافة الشعرية العالمية الهائلة التي تتخلل أجزاءه؛ فمن كل أقطار الدنيا، ومن أقاصي الحضارات تزهر نصوص شعرية في أجزاء الكتاب، وحقًا استمتعت بقراءة نصوص في غاية الشاعرية من شعراء عالميين منذ العصور القديمة. كنت أقرأ تلك النصوص وأصيخ السَّمع إلى أنين كلماتهم، ونشيج قصائدهم؛ فللكلمة الشاعرة جمال يشعر بها قارئها. ينفخ الشاعر في كلماته روحه، فيتردد صداها في الوجود ولا يتوقف. إنها أشبه بصوت الرِّيح بين الفجاج المُوحشة، ولا يخفت الصوت الجارح ما دامت الريح تراقص أسنة الصَّخور الحادَّة.
وقد أبدع المترجمون إلى العربية في نقل تلك النصوص، مثلما أبدع المؤلف في تضمين موسوعته نصوصًا شعرية نادرة لم تصل إلينا لولا اختياراته لها؛ شِعْرٌ يشبه أغاني الرُّعاة وهم يسوقون قطعانهم إلى المروج. وقد كان الشعر العالمي من مختلف الحضارات حاضِرًا في أجزاء الكتاب، فماذا عن حضور الشعر العربي في قصة الحضارة؟
في الجزء الخاص بعصر الإيمان ظهر إلى العربية في الجزء رقم 13 بترجمة محمد بدران خصصه المؤلف للحديث عن الحضارة الإسلامية نقرأ نماذج من نصوص الشعر العربي لكبار الشعراء العرب يتراوح تاريخ حياتهم بين العصر الجاهلي والعصر العباسي مسميًا الشعراء بأسمائهم؛ لذا سأضمن هذه المقالة إلماحات عن أولئك الشعراء العرب المرموقين والمحظوظين الذين ظهروا بأسمائهم في كتاب «قصة الحضارة» بما يؤكد أنهم أصبحوا من الشعراء العالميين؛ إذ قصة الحضارة تُرجِمَتْ إلى أكثر من عشرين لغة من بينها العربية.
ترى ماذا كتب ديورانت عن الحياة الشعرية لدى العرب؟ وكيف عبَّر عن حياة الإنسان العربي في العصر الجاهلي؟ وماذا قال حين تحدث عن العصر الجاهلي؟ هذه الأسئلة وجدت إجاباتها في الجزء الثالث عشر، فلنبحر قليلا مع ديورانت، واختياراته الحُرَّة لنصوص من الشعر العربي.
يبدأ الفصل بحديث عن جزيرة العرب منبت الشعراء، فبين صحاريها الموحشة وجبالها الشاهقة، وآلاف القرى التي تغطي الشطر الأكبر منها عاش الشعراء الأفذاذ الذين عرفناهم، ونقلت المصادر بعضًا من نصوصهم. يتحدث ديورانت عن إلهامات الشعراء من بينها المرأة؛ فقد كان الإنسان البدوي لا يدانيه في نظره شيء في جمال نسائه. لقد كان جَمَالًا أسمر قويًا يفتن اللب خليقًا أن يتغزَّل فيه بعشرات المئات من الأغاني الشعرية، ولكنه سرعان ما يذوي في جو الصحراء القائظ، ثم يتحدث عن تأثير الحرب في نفسية أولئك الشعراء باعتبارها ملهمة لخيالهم، وعن سوق عكاظ حيث تتنافس فيه القبائل على لسان شعرائها. وكانت أحسن القصائد تكتب بحروف جميلة برَّاقة سميت بالمُذهَّبات، ويسميها العرب 'المُعلَّقات'. بقي منها سبع قصائد يرجع تاريخها إلى القرن السادس الميلادي موضوعاتها الحب والحرب.
وأول ما استشهد به ديورانت هو «معلقة لبيد» تلك القصيدة الذهبية التي تسرد قصة جندي عاد من الحرب إلى قريته وبيته؛ حيث كان قد ترك زوجته «نَوَار» فوجد بيته خاليًا، وقد غادرته الزوجة مع رجل غيره، ويصف لبيد منظر هذا البيت الخالي بحنان لا يقل عن حنان «جولد سميث»، بل يزيد عليه في فصاحة الشعر وقوة التعبير.
وفي صفحة أخرى نجد حضورًا لمعلقة امرئ القيس؛ يصفها بأنها تنم عن حب سافِر. اختار المؤلف منها 17 بيتًا، ولا أعلم هل هذه الأبيات من اختيار ديورانت أم المترجم، ومنها:
وَبَيْضَةُ خِدْرٍ لا يُرَامُ خِباؤُها
تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بها غَيْرُ مُعْجِل
تَجَاوَزْتُ أحْرَاسًا إليْها وَمَعْشَرًا
عَليَّ حِرَاصًا لوْ يسرُّونَ مَقْتَلِي
ويبالغ امرئ القيس في وصف محبوبته التي اقتحم خباءها ذات ليلة؛ حيث كانت قد نَضَّت لنوم ثيابها إلا لبسة المتفضل، فخرج بها يقتادها من مرقدها كما يقتاد الذئب الشاة، حتى ما أن اجتاز ساحة الحي مُنتحيًا بها بطن الوادي قام بعناقها وهصرها، فلانت له وتمايلت، وكأنها راقصة تتثنى بجسدها بين يدي من يخاصرها، ويصفها في قصيدته بأنها مهفهفة بيضاء، وأن صدرها مصقول كالمرآة، وعليها خد أسيل، وجيد يشبه جيد الريم، وضفائر سوداء فاحمة، وخصر نحيل وسيقان يانعة، ومنها يفوح فتيت المسك، فهي نؤوم الضحى، وهو ما تعبَّر عنه قصيدته المعلقة.
يقول ديورانت في حديثه عن الشعر الجاهلي: إن شعراء الجاهلية كانوا ينشدون أشعارهم على نغمات الموسيقى، فجمعوا بذلك بين الشعر والموسيقى في صورة واحدة، وكان الناي والمزهر والدف أحب الآلات الموسيقية إليهم، وكثيرًا ما كانت الفتيات المغنيات يستدعين لتسلية الأضياف والولائم.
أما كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني -بحسب ديورانت- فيكشف عن غِنَى الشعر العربي وتنوعه يتألف من أكثر من عشرين مجلدًا. وتحدث عن الشاعر الحسن بن هانئ، المشتهر باسم «أبي نواس»؛ لغدائره التي كانت تنُوسُ على كتفيه، وكان مولعًا بالخمر والنساء والغناء. من أغانيه الشعرية:
يا سُليْمَانُ غَنِّنِي،
وَمِنَ الرَّاحِ فاسْقِنِي
فإذا ما دَارَتِ الزُّجَاجَةُ
خُذْهَا واعِطِنِي
والمتنبي أحد الشعراء الذين ذكرهم ديورانت بإسهاب في موسوعته، يقول: كان في بلاط سيف الدولة شاعر لا تكاد تَعْرف عنه أوروبا شيئًا، ولكن العرب يحسبونه خير شعرائهم على الاطلاق، واسم هذا الشاعر أحمد بن الحسين، واشتهر باسم «المُتنبي»، أي مُدَّعي النبوة. أشاد بانتصارات سيف الدولة في شعر جمع بين قوة المعنى وجمال اللفظ، ومن هذا الشعر بيته المشهور الذي كان سببًا في هلاكه، وهو:
الخَيْلُ وَالليْلُ وَالبَيْدَاءُ تَعْرِفُنِي
وَالسَّيْفُ وَالرُّمْحُ وَالقِرْطاسُ وَالقَلَمُ
ويسترسل ديورانت في حديثه عن شعراء العرب: بعد ثماني سنين من مقتل المتنبي ولد في «معرَّة النعمان» القريبة من حلب أبو العلاء المَعرَّي أعجب شعراء العرب على ألإطلاق دون أن يبرر المؤلف سبب تعجبه. لعل مسار حياته التي عاشها المَعرِّي تدعو إلى الإعجاب؛ فقد كان يهلك المعري من الجوع، لأنه أبى مديح الخلفاء، ويقول في وصفه: إنه ظلَّ إلى آخر أيامه يحيا حياة الحكماء البسيطة الخالية من جميع مظاهر النعيم. وكان المَعرِّي نباتيًا إلى أقصى حد لا يكتفي بالامتناع عن لحم الحيوان والطير، بل يمتنع كذلك عن اللبن والبيض وعسل النحل؛ فقد كان يرى أن الاستيلاء على هذه الأطعمة هو النهب بعينه. وتحدث عن «لزوميات أبي العلاء» التي لم يتحدث فيها عن النساء والحرب. ويبدو أن حظ أبي العلاء في قصة الحضارة أكثر من غيره من الشعراء؛ إذ نرى أن المؤلف استرسل في تتبع شعره خاصة ما يتعلق بالجوانب الفلسفية.
في هذا الجزء الثالث عشر من موسوعة «قصة الحضارة» حديث ممتع عن تفاصيل دقيقة من الحضارة الإسلامية خاصة الفصل الذي يتناول الفكر والفن في بلاد الإسلام مُفصِّلًا ذلك في هذه المتتاليات وهي: التعليم والعلوم والطب والفلسفة، والتصوف والإلحاد والأدب والفن والموسيقى.
الأمر الآخر أن المترجم بذل جهدًا كبيرًا في الترجمة يصرِّح به في سياق التقديم، يقول: وقد عانينا في ترجمته من الصعاب ما لم نعانه في سائر ما ترجمناه من أجزاء الكتاب، والحديث عن تلك الصعاب يطول لا تفي بها هذه المقالة. أما تلك النسخة الرائعة من كتاب «قصة الحضارة» التي عرفتها لأول مرة مع بدايات عملي الصحفي فلا أدري أين يستقر بها المقام الآن!