ثقافة

مسرحية الغرباء للفلسطيني جورج إبراهيم: لامبالاة الاحتلال الساخرة إلى آخر مدى

في قمة اللامبالاة والعبث والنظرة الدونية، راح الغريبان يبعثران محتويات صندوق صاحب البيت من وثائق وذكريات، وهما يعلوان مرتفع ما، في مفارقة متطرفة ما بين حزن الأسرة على مآل الحال، وسخرية الغزاة منها، وتتسارع اللامبالاة بحيث تستفز المشاهد للتساؤل هل هناك فعلا مثل هؤلاء الغرباء الذين يفعلون فعلهما غير الإنساني هذا، ليخف التساؤل وهو يشاهد أمامه ليس عبث الغزاة بأوراق الشعب الفلسطيني بل يهدم البيوت عليهم. 

لقد أخذ المشهد المعنى إلى أبعد مدى! وسيطول تأثير ذلك المشهد كثيرا. 

مثلت (حاكت) تعبيرات الفنانين الفلسطينيين منذر بنورة وسليم النبالي سلوك الغزاة الحقيقين على أرض الواقع. وهكذا، فقد نجحت المسرحية من خلال هذا الأداء في تنفير الجمهور من الغرباء، الذين يسطون على حياة أهل البيت-الشعب. 

المسرحية عن نص مسرحي ظهر عام 1966، للمصري محمود دياب (1966) تحت عنوان «الغرباء لا يشربون القهوة»، أخذ مجاله في عروض متنوعة المسرح العربي بعد عام 1967، مع احتلال ما تبقى من فلسطين؛ حيث احتل «الغرباء» باقي البيت الفلسطيني. قام بإعداده الكاتب ومخرج العرض الفنان جورج إبراهيم. 

ما أن يبدأ الغريبان بالتجول في ساحة البيت والعبث بها، بعد مشهد إعداد الأم للسفر إلى كندا بمناسبة زواج ابنتها هناك حاملة إليها ثوب عرسها بزيه الفلسطيني، مع الزعتر بأشكاله، حتى تزداد جرأتهما في وضع علامات للحدود حول حديقة البيت، وأخذ قياساتها، حيث في كل قياس يتكلفان بأنهما الأكثر دقة من خلال ذكر نصف السنتميتر. 

ولعل أخذ قياسات المنزل هنا، تذكر بتقسيمات الاحتلال للأرض، حيث تمنع الفلسطيني من البناء إلا في مواقع محددة، لحصر الناس في مساحات صغيرة، بل وإرهاب الفلسطيني من أجل ترك بيته خوفا من المستوطنين. 

فإذا كان هذا هو سياق العيش في فلسطين المحتلة الآن، فإن الاتكاء على نص «الغرباء لا يشربون القهوة» للكاتب محمود دياب، يصبح له معنى عميق، خاصة في حرب المستوطنين على فلسطينيي الضفة الغربية، ناهيك عن تهجير فلسطينيي غزة بالقوة والموت. 

بعثرة الوثائق وتخريبها إذن كانت قمة السخرية بالقوانين الإنسانية، وبذكريات الناس وممتلكاتهم الثقافية كأفراد وشعب عريق. 

«إجا دورنا»! في توقع للغزاة الغرباء، يهتف الزوج-الأب، لزوجته، في إشارة لحال أصحاب البيوت الآخرين الذين يداهمهم الغرباء. ولكن في لحظة احتجاج وسخرية من الغريب-المحتل، يخبر صاحب البيت الأصلي الغرباء بأنه فيه من جيل إلى جيل، فقد مرت 225 عاما على ملكية البيت. 

وهنا يمكن استدعاء السارد الحكواتي (جورج إبراهيم) حين رمز بما كان من احتلال عام 1948 و1967، بالتحدث عن البيت والذكريات. وفي خلال الصراع على المكان، يتعمق لدى الزوجة لماذا يرافقها في السفر خارج الوطن، تتسارع الأحداث الذي تتم خلال ساحة البيت الخضراء، والتي تحاكي حلبة المصارعة حين يقوم الغريبان بتثبيت نقاط أربع حولها يتم عمل شبك-شيك-حولها، بحيث يرمز إلى حصر المكان الفلسطيني والتضييق في الفضاء العام والخاص. 

لكنهما في استلاب الفضاء، يستلبان صندوق العائلة، ويمزقان «وثيقة الملكية»، معلنان انتهاء البقاء، لكن في لحظة بعثرتهما لتاريخ الأسرة وذكرياتها، يجد الزوج صورة العرس، فيجد بذلك أن ما أجرم به الغزاة لن يثنيهما عن البقاء. 

وفي وقاحة يتم استلاب التراث، حيث تلوذ المرأة الأم-الزوجة، بعباءة الجدّ، حيث ثمة معنى رمزي عميق، بمعنى اللجوء والاحتماء بالتراث كعنصر خصوصية وتميّز للشعب تحت الاحتلال. 

كان عنصر التمثيل رافعة للعرض، بدءا بالشابين منذر بنورة وسليم النبالي، اللذين تميزا في العرض، وبلغ إبداعهما، بل وإبداع العرض، في بعثرة الأوراق الثبوتية ورميها، في مشاعر اللامبالاة، حيث أديا دورا عزز ما يحدث الآن من قتل البشر بدون أي نوازع إنسانية. 

كما أدت الفنانة أميرة حبش دورا واقعيا، في الإعداد للسفر ثم الدخول مع الزوج (ضياء حرب) في توتر وجود الغرباء. كان انفعال الزوجين تجاه الغريبين واقعيا، بحيث حاكى حال الشعب تحت الاحتلال، في اختيار طريق القانون في إثبات ملكية البيت. وهذا ما يمكن أن يفسّر الانفعال المحدود لهما أمام المستوطنين، كونهما مدنيين في حين أن المستوطنين-الغريبين، يستخدمان القوة. 

قصة غريبين يغزوان بيت مسالم، استدعى وجود أشكال من التمثيل، وما واكبهما من إضاءة خاصة أبدع في تصميمها الفنان فراس أبو صباح، كذلك ما وجد على الخشبة من موجودات حديقة المنزل التي صارت تحاكي حلبة المصارعة، بما يرمز للصراع من جهة، وبما يرمز إلى تضييق الفضاء فرديا وبالتالي وطنيا. 

لذلك، انسجمت الرؤية الإخراجية كذلك على تصوير حالتين متناقضتين في الهيئة والشعور، كذلك في السلوك، من السلوك الطبيعي لأهل البيت، وسلوك استعراضي روبوتي. وأزعم أن رسالة العرض وصلت، خاصة في تصوير التناقض ما بين الاحتلال والشعب، من حيث الاستقواء وسلب الرواية الأصلية. 

«الغرباء»، التي عن «الغرباء لا يشربون القهوة»، تصوير تمثيلي واقعي ورمزي، ظهرت فيها الفرجة المسرحية، من خلال تتابع المشاهد وصولا للذروة في رمي الأوراق بما فيها من حقوق وذكريات، تحيلنا إلى ما يفعله المستوطنون في الضفة الغربية لنهر الأردن، وهي الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، والتي منذ الاحتلال والاستيطان يزداد وتتسارع وتيرته. ازداد الحال دموية في ظل حرب الإبادة التي تشنها (المستوطنة العسكرية). 

أحاط الفلسطيني هنا في المسرحية بيته بفضاء الحديقة مزينة بالورد والنباتات الخضراء، فيما أحاطها المستوطنون بالقيود والحدود، في قتل ليس فقط لفضاء البيت، بل للبيت نفسه، مذكرا باستيلاء الاحتلال على أراضي الشعب الفلسطيني التي تحيط بالبيوت الفلسطينية، في سعيه لتهجير أهلها. 

وأخيرا، هل كان الكاتب محمود دياب يعرف وهو يبدع نصه «الغرباء لا يشربون القهوة»، عام 1966، أنه بعد عام، سيسطر الغرباء على ما تبقى من فلسطين وهضبة الجولان وجزيرة سيناء؟ أم أنه، ولسبب ما، كان يتوقع زيادة الغرباء، الذين لا يشربون لا القهوة ولا الشاي، ولكنهم يذيقوننا المرّ. 

تحسين يقين كاتب وناقد مقدسي، يهتم بالأدب والفن والحقول المعرفية