أعمدة

المسكوت عنه

يقولون «لا تخلط الأدب بالسياسة» وهي كلمة غريبة بعض الشيء، فهل الأدب والسياسة والعلوم والفنون كلها إلا لأجل الإنسان وفي سبيل تطوير حياته ومجتمعه ودولته، ونقد مشاكله للتدليل عليها، والإشارة إليها، وعلاجها متى أمكن. وكيف يمكن علاج المشكلة دون الحديث عنها؟ فأحيانا يبدأ الأمر بخيط بسيط، لكنه لا يلبث أن يستحيل حبلا طويلا يلزم فك عقده سريعا. إن المتابع للشأن السياسي العالمي منذ سنوات يرى نمطا غريبا نما وازداد بعد أحداث الربيع العربي خصوصا، فقد عاد اليمين المتطرف إلى الواجهة بقوة شديدة وبفجاجة لا تقل شدة أو فظاعة عن تلك التي سبقت الحربين العالميتين الأولى والثانية. وأصبح اليسار في كثير من الدول الغربية -والكيان المحتل كذلك- لا يعني النقيض للتطرف اليميني، بل هو النسخة اللطيفة منه، والوجه الناعم الذي يقتنع ويؤدي ذات النتيجة والعمل، فهو يسار بالاسم وبالثوب فحسب، لكن حقيقته واحدة تماما. 

نتيجة لهذا كله تصاعدت الشعبوية الموجهة والمدعومة من دول وقوى خارجية تمثل الجيش الخامس للداعم وتحقق له مصالح قصيرة وطويلة المدى. وفي هذا السياق، أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عددا لا بأس به من الكتب والدراسات حول الشعبوية وتطورها وإرهاصات المستقبل القادم بعدها، وكذلك فعلت بعض دور النشر العربية الأخرى التي لا يتسع المقام لذكرها. لكن الأهم حقا، هي تلك الدراسات والكتب التي صدرت في قلب تلك الدول التي تأثرت تأثرا مباشرا قد نلاحظه ونشعر به كعرب لأنه يمسنا باختصار، أو هو أمر مؤجل لما سيأتي من الزمان لا محالة. فقد قام المجلس الأطلسي -مؤسسة بحثية غير حزبية لها تأثير بارز في الشؤون الدولية- ومطبعة جامعة جونز هوبكنز، ومجلس سياسات الشرق الأوسط التي تقع كلها في الولايات المتحدة الأمريكية بطباعة الكتب والدوريات والمجلات والبحوث التي تعالج هذا الشأن وترصد نموه وتطوره وآثاره. وهذه الكتب والدراسات والبحوث ليست مترجمة بعد، ولكن يمكن للباحث أن يجدها بمجرد البحث عن كلمة «الشعبوية» في مواقع هذه المؤسسات. 

حسنا، ما علاقة الشعبوية بحديثنا؟ وما دورها؟ إن الشعبوية في ظاهرها حالة احتجاج ضد الطغمة الفاسدة التي تدير الدولة، وهي اليمين المحافظ المتشدد الذي يقابل اليسار الليبرالي عادة. ويبدو في الظاهر أن الشعبوي شخص يريد إعادة دولته إلى قوتها ومكانتها -ألا يذكركم هذا بشعار ترامب في حملته الانتخابية MAGA؟- أو إلى «تنظيفها» وفق العبارة المستعملة عادة من قبل الشعبويين من الفاسدين الذين يضرون الدولة. الغريب في الأمر أن هؤلاء الشعبويين يتلقون الدعم المباشر من العدو الخارجي للدولة وأمثلة ذلك لا تعد ولا تحصى كخيرت فيلدرز في هولندا، مارين لوبان في فرنسا، دونالد ترامب، والأخطر من هؤلاء جميعا ناريندرا مودي الرئيس الهندي. ولنوضح المقصود بـ«العدو الخارجي»، فلا يعني هذا العدو المعلن مثل -برشلونة/ ريال مدريد في كرة القدم- بل هو العدو الذي يجعل من هؤلاء الذين يبدو أنهم وصلوا إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع لخدمة بلدانهم وتنميتها، وفي الحقيقة ليسوا سوى بيادق لمن يوصلهم إلى مجد التاج والصولجان، ومن أفضل من المافيا التي تتمثل على شكل دولة ككيان الاحتلال الصهيوني؟ إن هذا الاحتقان يستدعي وقوفا من الزعماء وتوعية الشعوب تجاهه ومعالجة الفساد، لأن العشب الصغير قد يشعل الغابات الكبيرة. الأمر معقد بحق، فهو يبدأ بمعاداة المهاجرين والأعراق الحديثة في الدولة، ولا ينتهي إلا بأن يعتبر المنطق وصمة وعارا يصم المتحدث به، ثم يتم زج المتحدث بالمنطق في ذات القفص مع العدو المتوهم. وفي هذا السياق، لا ينسى المرء ما قاله عالم النفس النمساوي اليهودي فيكتور فرانكل بأنه كان يخشى أن يقع تحت رحمة بعض المساجين من اليهود، وأن النازيين في حالات شتى كانوا أرأف بهم من معتنقي ذات الدين، والرازحين تحت ذات الأذى. خلاصة الأمر ببساطة أن التاريخ يعيد نفسه نعم، يعيد نفسه حين نقرر أن نقف مكتوفي الأيدي ونؤمن بالخرافات ونستقبل الواقع باعتباره الحاصل الذي لا يد لنا فيه ولا حيلة لتغيير شيء فيه. وكما أن الكثير من الأشياء تسللت إلينا رغم مخالفتها لعادات بيئتنا التي لا تتناسب معها -الملابس مثلا- والأفكار، فإن المد الشعبوي اليميني آت لا محالة. وما ينمي هذا المد ليست أشياء خيالية أو وهمية لا وجود لها، بل هي قنابل موقوتة إن لم تحل بأسرع ما يمكن، وعلى رأسها البطالة والفساد المستتر. إن الخوف من الحديث أحيانا، الخوف من الكتابة، والنقيض المتمثل في الانتفاع الشخصي بتلميع الصدأ أو جلوه. وذلك بتضخيم الإنجازات أو اختراعها رأسا لنيل منفعة ذاتية من صاحب الشأن. فهل من الصعب حقا علاج المشكلات في مهدها؟ أم أن الرهان على لطف الأقدار وآمال المستقبل هو الصوت السائد؟ أما الأدب بالسياسة بالاقتصاد، فهي علوم ومجالات خلقها الإنسان لخدمته ولفهم حياته ونظامها وتغييرها للأحسن متى أمكن، فهل سنكتفي بالنظر إلى القشور المتمثلة في العنوان، أم سنعالج صلب الأمر؛ الإنسان حاجاته ومتطلباته.   

علاء الدين الدغيشي كاتب وشاعر عماني