عمان العلمي

حتى لا يُصادر الإبداع

 

سعد صبّار السامرائي -

تخيّلوا عالمًا كان فيه فيروس شلل الأطفال وحشًا يطارد خطوات الأطفال ويسرق أحلامهم، ثم في لحظة فارقة جاء لقاح واحد، فغيّر مصير البشرية. بهذه الصورة استهللت محاضرتي، الأسبوع الماضي، مع طلبة السنة الرابعة في مقرر علم المناعة، ونحن نتناول تاريخ اللقاحات وأثرها في الصحة العامة ودورها في تطوّر هذا العلم. ومن بين أبرز الأمثلة الملهمة التي ناقشناها قصة لقاح شلل الأطفال، الذي طوّره العالم الأمريكي جوناس سالك عام 1955، حين اختار نهجًا مغايرًا يقوم على استخدام الفيروس المقتول بدلًا من الفيروس الحيّ المضعّف، مما جعل اللقاح أكثر أمانًا وأسهل إنتاجًا، ومهّد الطريق أمام انتشاره عالميًا، خصوصًا بعد الموقف الإنساني الشهير لسالك، حين رفض تسجيل براءة اختراع باسمه. فقد سُئل آنذاك: «من يملك براءة هذا اللقاح؟ فأجاب: الشعب. هل يمكن لأحد أن يسجّل براءة للشمس؟» ثم أضاف: «هذا اللقاح هديتي إلى أطفال العالم». كان هذا الموقف كفيلًا بفتح الباب أمام إتاحة اللقاح للجميع، فشهد العالم، خلال سنوات قليلة، انخفاضًا كبيرًا في معدلات شلل الأطفال.

وعندما قارنّا ذلك بما جرى في السنوات الأخيرة مع جائحة كوفيد-19، بدت المفارقة واضحة. فقد أُنتجت لقاحات كورونا بفضل استثمار غير مسبوق من الأموال العامة والخاصة، وتقدّم مذهل في تقنيات الحمض النووي الريبوزي الرسول (mRNA)، غير أنّ الشركات الدوائية الكبرى أحاطت ابتكاراتها بشبكات معقدة من براءات الاختراع والعقود السرّية، وتفاوتت الأسعار تفاوتًا كبيرًا بين الدول. ففي حين حصلت بعض الدول الغنية على الجرعات بأسعار تفضيلية عبر عقود مبكرة، وجدت بلدان أخرى نفسها مضطرة لدفع مبالغ أعلى أو الانتظار طويلًا، ما أدّى إلى فجوات واضحة في التغطية. وفي نهاية عام 2023، لم تتجاوز نسبة التلقيح بجرعة واحدة في إفريقيا 38%، مقابل معدلات قاربت الاكتمال في أوروبا وأمريكا الشمالية.

لقد حققت شركات مثل فايزر-بيونتك وموديرنا أرباحًا تاريخية؛ إذ بلغت إيرادات فايزر من لقاحها في عام 2022 نحو 37 مليار دولار، فيما حققت موديرنا ما يقارب 19 مليار دولار في العام نفسه. هذه الأرباح الاستثنائية طرحت أسئلة أخلاقية وسياسية حول معنى الابتكار حين يُختزل في حسابات السوق، وحول العدالة الصحية حين تُقيَّد المعرفة والملكية بحدود العقود والبراءات.

لكن هذه المقارنة لا تبقى حبيسة الماضي والحاضر الصحي وحده، وإنما تمتد لتطرح علينا نحن الباحثين والأكاديميين أسئلة مُلحّة عن معنى الابتكار وجدواه. فالجامعات اليوم تدفعنا دفعًا إلى الانخراط في ميدان تسجيل براءات الاختراع ونشر البحوث بكثافة، ليس باعتبارها مشاريع ذات أثر مباشر في المجتمع، إنما مجرد أرقام تُكدَّس في جداول السمعة الأكاديمية والتصنيفات الدولية. في هذا السياق، يجد الباحث نفسه ممزقًا بين نداء الإبداع الحقيقي ورغبة المؤسسة في حجز موقع لها على خارطة التصنيفات، وبين فكرة الابتكار التي تسعى إلى حل مشكلات واقعية، وفكرة الاحتكار التي تفرغ الابتكار من روحه الإنسانية.

وهكذا كثيرًا ما نكتب أفكارًا تُسجَّل براءات اختراعها بجهود وأموال الجامعة، لتظل في النهاية حبرًا على ورق، لا تتحول إلى منتج حقيقي، ولا تُفضي إلى تعاون، ولا تخدم المجتمع. في تلك اللحظة يشعر الباحث أنّه يحترق في سعيه لإرضاء المؤسسة، فيما تتضاءل المسافة بين البحث من أجل المعرفة، والبحث من أجل الأرقام. وهنا يحق لنا التساؤل: هل نعيد إنتاج مأزق لقاحات كوفيد-19 على نطاق أصغر داخل أسوار جامعاتنا؟

وهل نصبح -من حيث لا ندري-

جزءًا من منطق الاحتكار بدل أن

نكون روافد للمعرفة المفتوحة؟

في مقالتها «الجامعات الأمريكية تخسر ملايين الدولارات في مطاردة براءات الاختراع»، المنشورة في موقع The Conversation 2025، قدّمت الباحثة ترايسي وولش تحليلًا لجدوى استثمارات الجامعات الأمريكية في الملكية الفكرية. اعتمدت وولش منهجية المحاسبة الكاملة للتكاليف، التي لا تقتصر على النفقات المباشرة، بل تشمل أيضًا التكاليف الخفية مثل الوقت المستنزَف من أعضاء هيئة التدريس في متابعة ملفات البراءات. وقد خلصت إلى أنّ أغلب الجامعات لا تحقق أي عائد يُذكر، وأنها تخسر ملايين الدولارات سنويًا، حيث تفوق الخسائر المرتبطة بالفرص الضائعة -مثل إهمال كتابة مقترحات المنح البحثية- قيمة العوائد المتأتية من البراءات بأضعاف. كما بيّنت أن توسع مكاتب نقل التكنولوجيا بعد صدور قانون باي-دول (Bayh-Dole Act, 1980) زاد من الأعباء المالية دون أن يحقق العوائد المرجوّة، ما جعل هذه السياسة نزيفًا ماليًا مستمرًا.

وفي الاتجاه نفسه، كتب الباحث الكندي ريتشارد غولد، في مقاله «هل يجب أن تخرج الجامعات من لعبة براءات الاختراع؟»، أن التجربة الممتدة لأكثر من أربعين عامًا لم تحقق الغاية المنشودة؛ فالجامعات الكندية، كما يشير غولد، لم تُحسن إدارة أصولها البحثية، وأعاقت الابتكار بسبب تسجيل براءات مبكرة غير ناضجة، ومفاوضات طويلة تستهلك الموارد وتؤخر الاستفادة من النتائج. في المحصلة: ارتفاع النفقات، وضعف العوائد، وتراجع دور الجامعات في بناء شركات وطنية كبرى.

ويطرح غولد بديلًا واقعيًا هو نموذج العلم المفتوح (Open Science)، القائم على مشاركة البيانات بلا قيود براءات، وتشجيع التعاون بين الجامعات والمراكز البحثية والشركات. هذا النموذج أثبت نجاحه في مشروع تطوير علاج لسرطان الدم من خلال الائتلاف الدولي لعلم الجينوم البنيوي (SGC) ومعهد أونتاريو لأبحاث السرطان (OICR)؛ إذ أدى التعاون المفتوح إلى استثمارات بمئات الملايين خلال فترة وجيزة.

في الماضي، كان الدافع الأكاديمي هو الاكتشاف من أجل الاكتشاف، أما اليوم فالجامعات تعمل كأنها مختبرات بحث تجارية. وبدلًا من تبادل النتائج والتقنيات بحرية، صار الباحثون يميلون إلى إخفاء اكتشافاتهم للحفاظ على تفوّقهم التنافسي. ما كان يُخضع لمراجعة الأقران صار الآن «ملكية خاصة». تحوّل شعار «مشاركة المعرفة» إلى «كل مختبر يحتفظ بنتائجه».

بالطبع، هناك أهمية للتكتّم العلمي على نتائج الأبحاث الجديدة. كما يشير دانيال غرينبرغ، مؤلف كتاب «العلم للبيع: مخاطر ومكافآت وأوهام الرأسمالية الجامعية». حين كان جيمس واتسون وفرانسيس كريك يقتربان من اكتشاف بنيّة الحلزون المزدوج للحمض النووي في خمسينيات القرن الماضي، كانا يحرسان عملهما ويتكتّمان عن إعلان أي نتيجة، إلى أن اكتملت الرؤية ونُشر البحث في مجلة نيتشر؛ لضمان حصولهما على الفضل في الاكتشاف. يقول غرينبرغ: لم يحاولا تسجيل براءة اختراع له، لكن لو أن أحدًا يقوم بالعمل نفسه اليوم؛ لسعى بكل جهده إلى احتكار بنيّة الـDNA.

وبالفعل، وُلد مفهوم براءات اختراع الجينات مباشرة بعد أن أصبحنا قادرين على قراءة الجينات البشرية في تسعينيات القرن الماضي. وبوجه عام، تغطي هذه البراءات عمليات استخلاص مقاطع معينة من الـDNA وقراءتها، إضافة إلى الاختبارات التشخيصية المتعلقة بها. قد يبدو هذا مربكًا؛ فالبراءات تمنح حق الملكية لعملية أو اختراع. أمّا جيناتك فليست هذا ولا ذاك. لكن غموض القانون أتاح إصدار براءات على جينات مهمة. وأشهر مثال على ذلك يتعلق بجينين نمتلكهما جميعًا BRCA1 و BRCA2.

بعض النسخ المعطوبة (الطافرة) من هذين الجينين تجعل النساء عرضة للإصابة بسرطانات الثدي والمبيض، في السنوات الماضية، حصلت شركة Myriad Genetics على براءة اختراعهما بهدف فرض رسوم على التشخيص بلغت نحو 3500 دولار. وفي عام 2019 طُعن بهذه البراءات أمام القضاء الأمريكي، فأُبطلت، لكن الشركة استعادت حقوقها في الاستئناف. وفي غضون أسابيع قليلة، كان من المقرر أن تنظر المحكمة العليا الأمريكية في الحكم، لتفصل فيما إذا كان يمكن اعتبار الحمض النووي البشري ملكية خاصة. وإضافة إلى حرمان المرضى من التشخيصات الطبية، فإن هذه التعقيدات وتشابك براءات الاختراع يعرقلان التقدم العلمي. فالبحث العلمي، بطبيعته، يقود إلى مسارات غير متوقعة. تخيّل باحثًا شابًا يحاول فهم مرضٍ ما، مثل السرطان. الجينات التي تضطلع في مرض معقد كهذا عديدة وتشكل مسارات حيوية متشابكة. كل جين يتفاعل مع عشرات الجينات. لكن ما إن يصل الباحث إلى جين محمي ببراءة، حتى يُضطر لطلب إذن ودفع مقابل لمتابعة عمله أو ترك المشروع. فهذه البراءات تعيق البحث والابتكار، والوحيدون الرابحون هم المحامون.

في الواقع، كانت علوم الحياة، وبخاصة التقنية الحيوية، هي البوابة الأولى التي قادت الجامعات إلى المنحدر التجاري. وإذا كانت هذه التحولات موثّقة بوضوح في الجامعات الغربية، فإن ملامحها في جامعاتنا العربية لا تزال أكثر غموضًا وأقل شفافية. إذ لا تتوافر بيانات دقيقة تبيّن حجم العائدات المتحققة من براءات الاختراع. ومع ذلك، يمكن ملاحظة اتجاه واضح نحو تسجيل براءات متعثرة لا تتحول إلى منتجات حقيقية، بل تُثقل كاهل المؤسسات وتغلق أفق البحث أمام الأجيال اللاحقة، حيث يسود منطق «اللا-بحث» بدل البحث الحر. ويُطلب من الباحثين والأكاديميين الانخراط في سباق محموم لتسجيل براءات لا يتجاوز أثرها، في الغالب، أوراقًا في الملفات وتقارير للأقسام، فيما تُهدر الجهود والموارد على حساب المشاريع ذات الجدوى الحقيقية، أو مقترحات المنح القادرة على تمويل المختبرات ودعم الطلاب والباحثين. وهكذا يتحول الابتكار من كونه سعيًا لحل مشكلات واقعية إلى عبء بيروقراطي يُفرغ البحث من روحه الخلّاقة.

إن إصلاح هذا الواقع لا يتوقف عند تعديل الإجراءات الإدارية أو تغيير السياسات المالية، إنما يتطلب تحولًا أعمق في ثقافة الجامعة نفسها. فمن الممكن تبنّي سياسات ترفض تسجيل البراءات غير الناضجة أصلًا، أو اعتماد صيغ مفتوحة للتراخيص والتعاون، وإعادة توجيه مكاتب نقل التكنولوجيا لتشجّع على الشراكات البحثية الحقيقية، بدل مطاردة التصنيفات وتعبئة خانات مؤشرات الابتكار. والأهم هو استعادة جوهر رسالة الجامعة، بوصفها فضاءً للمعرفة الحرة، وخيرًا عامًا للمجتمع.

وحتى لا تُصاب جامعاتنا بعدوى الاحتكار، فإن هذه الكلمات، وواقع الجامعات الأمريكية والكندية في صراعها مع براءات الاختراع، تأتي بمثابة دعوة صريحة إلى مراجعة الأهداف التي تعمل عليها أقسام الابتكار ومكاتب نقل التكنولوجيا في جامعاتنا العربية، بحيث تتحول من مجرد وحدات إدارية تسعى وراء الأرقام والتقارير إلى فضاءات حقيقية للفضول العلمي والإبداع الجماعي. إذ ينبغي لهذه المكاتب أن تُنتج معرفةً طويلة الأمد تُثري المجتمع والإنسانية، وأن تعيد الاعتبار لدور الجامعة، بوصفها حاضنة للفكر النقدي والبحث الحر.

سعد صبّار السامرائي، جامعة التقنية والعلوم التطبيقية بالرستاق