الحماية الفكرية كوسيلة هيمنة
الأربعاء / 24 / ربيع الأول / 1447 هـ - 10:02 - الأربعاء 17 سبتمبر 2025 10:02
نوف السعيدي -
في إحدى زيارات والدي الدورية للطبيب، وقبل أن يبدأ في الحديث عن وضعه مع مضاعفات السكري (الذي أثّر على قلبه وأعصابه وكِلاه، الذي أفقده نظره وقضى عليه في النهاية)، استوضحه في شيء التقطه من محادثة الطبيب مع المريض الذي سبقه. كان المريض يحكي عن تحسن حالته بعد تجربته لمستخلص ورق الشريش (شجرة النيم)، وكان الطبيب يوصيه أن يستمر في تناوله. أراد والدي -المستعد لتجربة أي وصفة شعبية أو تقليعة طبية أمام هذا المرض الشرس- أن يتأكد من أن الطبيب ينصح فعلًا بتناول مستخلص الشريش. اتضح أن الطبيب لم يرَ قيمة خاصة لوصفة الشريش، ما كان يريده الطبيب حين أوصاه بالاستمرار هو الحفاظ على روحه المعنوية العالية، على شعوره بأنه يتغلب على مرض يُشعرك بأنه ينال منك بطرق جديدة كل يوم. ورغم وقوف شريشة فارعة أمام البيت حينها، إلا أننا لم نجرب حتى أن نصنع منها شيئًا. لشجرة الشريش المعمرة، دائمة الخضرة، وفارعة الطول استخدامات تفوق وقوفها بمهابة أمام منازلنا أو وسط حوارينا. فهي معروفة بتخصيبها للتربة، وتنقيتها من الأملاح، كما أنها معروفة باستخداماتها في الطب الشعبي خصوصًا لمعالجة مشاكل الجهاز الهضمي، وبعض المشاكل الجلدية، و-خمنوا ماذا؟- تقليل مستوى السكر في الدم.
في الهند -موطن الشجرة الأصلي- تُستخدم أوراق النيم وبذورها ولحاء شجرتها في مستحضرات التجميل، والصابون، وحتى كمانع للحمل. لكن استخداماته الأهم هي تلك التي تستثمر زيت الشجرة كمبيد طبيعي للفطريات والحشرات.
وبعد أكثر من 2000 سنة على وجود هذه المعرفة وشيوع تطبيقاتها، حصلت وزارة الزراعة الأمريكية وشركة غريس العابرة للحدود W. R. Grace على براءة اختراع لطريقة السيطرة على الفطريات باستخدام مادة مستخلصة من بذور النيم.
تحدّت الدكتورة الهندية فاندانا شيفا Vandana Shiva وأطراف رسمية أخرى (الاتحاد الدولي للزراعة العضوية، وحزب الخضر في البرلمان الأوروبي) أصالة هذه البراءة ليُلغيها أخيرًا مكتب البراءات الأوروبي.
فاندانا شيفا هي باحثة وناشطة بيئية ألهمتها هذه الحادثة وأمثلة أخرى (الأرز البسمتي، والكركم) لتجادل بأن أنظمة حقوق الملكية الفكرية (خاصة نظام براءات الاختراع الأمريكي الذي تم تعميمه عالميًا) هي آليات الاستعمار الجديدة للسيطرة على الموارد. تستخدم شيفا لوصف هذا مصطلح «القرصنة البيولوجية»، وتعني عملية نهب الموارد البيولوجية والمعارف التقليدية وتحويلها إلى ملكية خاصة للشركات العالمية. وتنقض أسطورة براءات الاختراع باعتبارها محفزة للإبداع، ومولدة للمعرفة.
ثمة حدثين مهمين في الثمانينيات وأوائل التسعينيات غيرا دور الحماية الفكرية. الأول، يتمثل في أن براءات الاختراع صارت أشمل فضمت إليها الأنواع الحية، والثاني في أنها صارت نشطة على مستوى عالمي.
ففي العام 1988 سُجل أول فأر كبراءة اخترع. فأر الأورام أو فأر هارفارد هو نوع من الفئران المعملية التي تم تعديلها وراثيًا لتحمل الجينات المسببة للسرطان ما يجعلها نموذجًا مثاليًا للاستخدام في أبحاث السرطان. ورغم أنه لم يكن الفأر الأول الذي عُدل وراثيًا ليستخدم في أبحاث السرطان، إلا أن مكتب دوبونت DuPont حصل على براءة مرخصة واسعة النطاق بشكل استثنائي، لتشمل أي حيوان معدل جينيا ليحمل جينات مسببة للسرطان.
في الثمانينيات أيضًا انطلقت سلسلة من جولات المفاوضات التجارية على أعلى وأوسع مستوى. بدأت بجولة الأوروغواي في 1986 وانتهت في 1994 بتأسيس منظمة التجارة العالمية. وقد قدمت أمريكا إلى العالم حينها نظام حقوق الملكية الفكرية.
تضرب شيفا العديد من الأمثلة الصارخة: شجرة النيم (الشريش) التي عُرفت خصائصها الطبية والزراعية لآلاف السنين -كما ذكرنا- وقبل أن تحوز الشركات على براءات اختراع تخص استخداماتها، لبراءات الاختراع على أصناف أرز بسمتي متجاهلة تقاليد التحسين وتراث الفلاحين، إلى براءات استخدامات الكركم والنباتات الطبية في التئام الجروح، واستخدام نباتات مثل الكاريلا (القرع المر) والجامون (التوت الأسود الهندي) لتنظيم مستويات السكر في الدم.
تسهم هذه الممارسات في أمرين أساسيين:
* رفع الأسعار (كارتفاع أسعار بذور النيم) وحرمان السكان من مورد حيوي.
* تهديد تراث مربي النباتات والحيوانات والطرق التقليدية لتحسين النسل.
ولهذا تبعات خطيرة ليس على الإرث المعرفي فحسب، بل على جودة حياة الفلاحين بل وحياتهم نفسها. تؤدي أوضاع الفلاحين المتدهورة وظروف عملهم القاسية لعدد مهول من حالات الانتحار. بلغ العدد ثلاثمائة ألف في الفترة من 1995 إلى 2015. ولسخرية الأقدار كان أكثرها باستخدام المبيدات الحشرية.
لا يجب أن تتوقف محاولاتنا لمراجعة التوجهات العالمية؛ لأنها قد تخبئ في طياتها عكس ما تدعي، وتخفي في دعاويها المبهرجة حول حماية الإبداع، وتعميم الممارسات والخبرات عبر الاتفاقيات الدولية، والسماح لها بالتنقيب وإجراء الأبحاث دون رقابة -أقول إنه كثيرًا ما تختبئ خلف دعوات العولمة سياسات استغلال خفية، ومصادرة للملكيات المشتركة، واحتكار للمشاعات.
إذا كان الاستيلاء على الأرض ومواردها هو الجانب التاريخي الأكثر وضوحًا للهيمنة، فإن الاستعمار المعرفي عبر التملّك الفكري ينجح في جعل السلب والاحتكار والتبادل الجائر شرعيًا وممنهجًا. والأهم أنه يخفيه بدهاء معقد تحت قناع حماية الابتكار.