عمان العلمي

ليهدأ كلّ شيء: ضدّ فرطِ الاتّصال

 

زهرة ناصر -

عندما أُغلق هاتفي وأبتعد عن إشعاراته المتواصلة، أكتشف أنني أستعيد إيقاعًا منسيًا لحياتي. في تلك اللحظات، أجد متعة غريبة في تفاصيل بسيطة مثل قضاء يوم بأكمله في إعداد طبق معقد يحتاج إلى تأني وتركيز، أو الشعور بالسلام الذي يغمرني وأنا أُطوي الملابس بهدوء. لستُ أُحاول تجنب الملل، بل أكتشف أنني أهرب من انشغال دائم لا طائل منه، انشغالٌ يفرضه عليّ إيقاع هذا العالم السريع. هذه التجارب الواقعية، التي قد تبدو عادية، هي في الحقيقة ما يطرحه الكاتب كال نيوبورت في كتابه «فلسفة التجرد الرقمي».

قدّم نيوبورت كتابه لا بوصفه دعوةً إلى الحرمان من الأدوات، بل كطريقة استخدام واعية في زمن صار فيه الانتباه سلعة تُباع. المنصّات الرقمية ليست وسيطًا محايدًا، فهي مُصمَّمة لإطالة بقائنا وتعظيم التفاعل عبر اختبارات متواصلة، وتنبيهات مضبوطة، وتخصيصٍ خوارزمي يعيد جذبنا بسرعة. بهذه الآليات تُستثمَر هشاشتُنا النفسية - التبديل السريع بين السياقات، وتوقّع المكافأة القصيرة، والتوق للإعجاب؛ فيبقى الذهن في حالة تأهّب دائمة.

والنتيجة المتوقَّعة بسيطة: تقلّ فترات التركيز المتصل، ويحتاج العقل إلى وقت أطول ليستكين. عندها يضعف التناوب الطبيعي بين الشرود الذي يُعيد ترتيب الأفكار وبين العمل التنفيذي الذي يصوغها. ينعكس هذا مباشرةً على الأعمال التي تحتاج إلى نفس طويل: ينقطع الخيط الداخلي للعمل وتميل اليد إلى الحلول الآمنة بدل المجازفة التي تمنح العمل نبرته. هذا المقال يحاول أن يشرح كيف تُعيد هندسة الانتباه تشكيل يومنا، وكيف تمنح فلسفة التجرّد الرقمي إطارًا عمليًا لنستعيد وتيرتنا وشيئًا من السلامة العقلية التي تصاحب الحضور الهادئ مع فعلٍ واحدٍ متأنّ.

الخيط مقطوع

العالم أسرع من قدرة أذهاننا على تثبيت فكرة واحدة. تدفّق الرسائل والتنبيهات القصيرة يجزّئ اليوم إلى وحدات زمنية صغيرة، فنقفز بين مثيرات متلاحقة ونعود إلى ما كنّا نفعله محمّلين ببقايا المهمّة السابقة. من منظور معرفي، هذا النمط يرفع الحمل على الذاكرة العاملة ويُنتج ما يُعرف ببقايا الانتباه؛ أي أثر ذهني يبقى من المهمّة السابقة فيعيق الاستغراق في التي تليها، فينشأ شعورٌ بالحركة أكثر مما ينشأ معنى متماسك. كل انتقال بين سياقين يحمل كلفة استعادة قبل أن يستعيد العقل «السياق» الخاص بالعمل القائم. ومع تكرار القفزات يتناقص الزمن المتصل الذي تحتاجه الذاكرة العاملة لبناء صورة كاملة للنصّ أو المشهد أو اللحن. نتيجة لتفعيل آلية البروز المتكرر بفعل الإشارات الخارجية، يضطرب التناوب الطبيعي بين شبكة الوضع الافتراضي المسؤولة عن الشرود البنّاء وبناء السيرة الذاتية والتخيل، والشبكة التنفيذية المسؤولة عن الصياغة واتخاذ القرارات، مما يؤدي إلى تشتت الانتباه وضعف القدرة على ترك فكرة واحدة تنضج بهدوء حتى تتخذ شكلها.

يظهر الأثر مباشرة في الإنتاج الأدبي والفني. كتابة فقرة متماسكة تتطلّب حمل سياق داخلي مستمر: النبرة، والمنظور، وإيقاع الجملة. كل إشعار يقطع هذا الخيط ويجبر الكاتب على إعادة تهيئة السياق من جديد، فتخرج الجمل صحيحة نحويًّا لكنها مسطّحة الإيحاء لأن سلاسل الارتباط الدلالي قُطِعت قبل أن تمتدّ إلى مناطق أبعد. في الرسم أو التأليف الموسيقي يحدث ما يشبه ذلك: الانقطاع يعيد اليد إلى التنفيذ الآمن ويزيد التحفّظ، فتقلّ المجازفة وتغيب المفاجآت الصغيرة التي تمنح العمل شخصيته. تبدو النتيجة نشاطًا كثيرًا، لكن القوس الشعوري أو الفكري للعمل يبقى مبتورًا.

تحتاج الفكرة الخلّاقة إلى فراغ حاضن لا يطالبنا فيه أحد برد فوري. في هذه الفسحة الهادئة تنشط عمليات الاستدعاء والتخيّل وإعادة التركيب: ذكرى بعيدة تلتقي بقراءة قديمة، وصورة تجرّب إيقاعها، وخطأ صغير يلمّح إلى حلٍّ شكلي. هذه الروابط لا تولد في فواصل من ثلاثين ثانية؛ بل تحتاج دقائق متّصلة تسمح بتناوب هادئ بين التفكير الداخلي والعمل الموجَّه. وعندما نضغط هذا الفراغ ونكثّف المثيرات، تضيق مساحة الخيال ويقوى ميلُ التكرار.

إبطاء الإيقاع هنا ليس عزلة، بل تدخّل قابل للقياس: جلسة كتابة/رسم صامتة بحدود اتصال واضحة، وهاتف خارج مجال النظر، ومشي قصير بلا سماعات قبل البدء، وختام بسطر يثبّت خيط السياق للجلسة التالية. هذه الخطوات تطيل وقت المكوث المعرفي وتيسّر التناوب بين الشبكات؛ ويظهر أثرها في تماسك المعنى وجرأة الاختيار لا في عدّ الصفحات والدقائق.

التأنّي كعلاجٍ عملي

التأنّي هنا ليس دعوةً جمالية ولا موقفًا أخلاقيًا من التقنية، بل طريقةٌ عملية لإعادة ضبط الكثافة الحسيّة والزمنيّة من حولنا كي يعمل الدماغ على وتيرةٍ يمكنه احتمالها. حين يتراجع سيل المثيرات، تنخفض كلفة تبديل المهام ويطول زمن المكوث مع خطّ واحد من الانتباه. عند هذه الدرجة يعود التناوب الصحي بين الشبكات العصبيّة: شبكة الوضع الافتراضي التي تُعنى بالتأمّل الذاتي واستدعاء الذاكرة وبناء السرد الداخلي، والشبكات التنفيذيّة التي تتولّى التنظيم والضبط واتخاذ القرار. هذا التناوب ينتج وضوحًا أعظم وهدوءًا داخليًا محسوسًا.

ما نسمّيه «الحضور الهادئ» يرتبط بظواهر قابلة للرصد. الأنشطة البطيئة الماديّة -كالطهو على مهل، أو طيّ الملابس بإيقاع ثابت، أو مشيٍ قصير بلا سماعات- ترفع الانتباه إلى الإشارات الداخليّة للجسد، وهو ما يُعرف بالإدراك الداخلي. حين تُضبط الوتيرة إلى أنفاس أبطأ قليلًا من المعتاد وتُقلَّل المشتّتات البصريّة والسمعيّة، تميل استثارة الجهاز العصبي الودّي إلى الانخفاض ويظهر توازنٌ أفضل مع نظيره نظير الودّي. غالبًا ما يظهر ذلك في صورة ارتخاءٍ جسدي، وانخفاضٍ في حدّة الأفكار المتراكضة، وقدرةٍ أسهل على البقاء مع شعورٍ واحد من دون الانجراف إلى الاستجابة التالية.

تأثير الإيقاع البطيء يمتدّ إلى تنظيم الضغط النفسي. حين لا نُستدعى استجابةً لمثيرٍ جديد كل دقائق، تتراجع حالة التأهّب المستمرة ويخفّ الإحساس باليقظة المفرطة. تتاح للشبكات المسؤولة عن المراقبة الداخليّة وضبط الانفعال مساحةٌ لإعادة المعايرة، فينخفض الإرهاق الذهني ويقلّ الميل إلى الاجترار. لا يعني ذلك زوال القلق أو الحزن، بل تحسّن القدرة على ملاحظتهما من مسافةٍ أقرب إلى التوازن بدل الوقوع تحت ضغطهما.

ينعكس هذا الإعداد أيضًا على النوم. تقليص التحفيز المتأخّر في المساء، وإتاحة فعلٍ بطيءٍ قصير ذي ملمسٍ ورائحةٍ وإيقاعٍ واضح، يساعدان على الانتقال التدريجي من يقظةٍ متحفّزة إلى حالةٍ أكثر ملاءمة لبداية النوم. ومع انتظام هذا الطقس، تتحسّن جودة الاستيقاظ الصباحي ويقلّ الشعور بالتشظّي منذ اللحظة الأولى لليوم.

الفراغ

حين يقارن كال نيوبورت بين جيلٍ نشأ قبل الهواتف الذكية وجيلٍ يعيش داخلها، لا يقدّم حنينًا إلى الماضي بقدر ما يلفت الانتباه إلى اختلاف شروط الإعداد الذهني. كانت أيام الأجيال السابقة تُبنى على فواصل طبيعية من الصمت والانتظار: طابور بلا شاشة، ومواصلات بلا تدفّق لا نهائي، ورسائل تُكتب وتُنتظر، ومكالمات تُؤجَّل إلى وقت متّفق عليه. هذه الفواصل -والملل الذي يصاحبها- كانت تمنح الدماغ فترات طويلة من الشرود، فتعمل شبكة الوضع الافتراضي في الخلفية على ربط الذاكرة بالتخيل وبناء السرد الداخلي. كان التواصل «دفعاتٍ» واضحة أكثر منه تنقيطًا مستمرًا، لذلك احتفظ اليوم بمقاطع زمنية متصلة تكفي لتماسك الفكرة أو الشعور.

على الضفة الأخرى، نشئنا نحن في بيئة استثارة رخيصة وعالية التكرار. كل لحظة انتظار قابلة للملء فورًا، وكل علاقة اجتماعية تملك قناة دائمة مفتوحة. هذا التحوّل لم يضف «نشاطًا» فحسب، بل رفع خطّ الأساس للاستثارة؛ صار الذهن يتوقع مثيرًا جديدًا كل دقائق قليلة، وتحوّل «الانتباه الجزئي الدائم» إلى وضع افتراضي. عمليًا، يعني ذلك مزيدًا من تبديل السياقات وما يخلّفه من بقايا انتباه تعيق العودة السلسة إلى الخيط الداخلي للفكرة. ومع تضاؤل الفواصل الصامتة، يقلّ زمن الاحتضان الذي تُركّب فيه النفس خبرتها وتعيد تنظيمها، فتظهر صعوبات مألوفة: توتر أعلى، ونوم أخف، وميلٌ لاجترار الأفكار بدل ملاحظتها وتركها تعبر.

الاختلاف لا يقتصر على عدد الساعات أمام الشاشة؛ إنّه فارق بنيوي في شكل الوقت. زمن الأجيال السابقة كان كتلًا أوضح: عمل، ثم فراغ، ثم لقاء. هذا التقسيم يسمح بتناوب صحي بين المعالجة الداخلية الهادئة والتفعيل التنفيذي المركز. أمّا اليوم؛ فاليوم الواحد يتشظّى إلى وحدات صغيرة تتخللها إشعارات ومقاطع قصيرة وتفاعلات عابرة، فيضيق مجال التناوب الشبكي، ويصبح الجهاز العصبي في حالة تأهّب أطول. لا عجب أن يصف نيوبورت الوضع الراهن بـ«حرمانٍ من الخلوة»: ليس لأننا لا نختلي، بل لأن الخلوة فقدت شروطها البيئية البسيطة - السكون، والحدود الواضحة، والوقت المتصل.

هذا الفارق ينعكس مباشرةً على السلامة العقلية. حين يتراجع زمن المكوث المتصل ويعلو منسوب الاستدعاء اللحظي، يزداد الحمل على الذاكرة العاملة، ويختلّ التنظيم الانفعالي: تتكاثر «النتوءات» المزاجية القصيرة على حساب استقرار أهدأ. في المقابل، حين تُستعاد ولو مقاطع قصيرة من الإيقاع الأبطأ -أنشطة مادية بطيئة، ومحادثات غير متقطعة، ونهاية يوم بلا تدفّق جديد، ويميل خط الأساس الفسيولوجي إلى الانخفاض، وتتحسن القدرة على النوم، ويظهر ذاك الرضى الهادئ بعد الفعل لا لأنه وفير، بل لأن الحضور كان كاملًا.

ليست الخلاصة أن الماضي أفضل، بل أن البيئة تصنع الذهن. الأجيال السابقة حصلت على الخلوة والملل «افتراضيًا» بحكم ندرة المثيرات؛ الأجيال الحالية تحتاج إلى تصميمٍ واعٍ لاستعادتهما لأن الاقتصاد المحيط بنا يقوم على المتاجرة بالانتباه المستمر. الفارق بين الجيلين، إذن، ليس في الأخلاق أو الإرادة، بل في بنية الوقت ذاته: أين توجد الحدود؟ وكم يدوم الصمت؟ وكيف يُدار الدخول إلى العالم والخروج منه؟ حين نعيد هذه البنية -حتى بجرعات صغيرة- يعود معها ما نفتقده غالبًا من سكينة يمكن الوثوق بها، واتصال متين بالذات وبالآخر، ومجال كافٍ لتتشكل التجربة قبل أن يقطعها المثير التالي.

زهره ناصر كاتبة ومترجمة عمانية