أفكار وآراء

بعد العدوان على الدوحة: مجلس التعاون الخليجي مثل هاملت أكون أو لا أكون؟

كما بات الشرق الأوسط بعد طوفان الأقصى ليس كما كان قبله، فإن منطقة الخليج بعد العدوان الأمريكي/ الإسرائيلي المشترك على الدوحة لم تعد كما كانت بعده. هذا العدوان غير المشهد الجيوسياسي للخليج والمنطقة أنهى به الأمريكيون والإسرائيليون قواعد الصراع في المنطقة واستبدلوا بها أخرى. أي تعامل خليجي وعربي بنفس القواعد القديمة سيكون وبالا وجوديا عليها جميعا. مجلس التعاون الخليجي الآن في حالة شكسبيرية كحالة «هاملت والسؤال المطروح عليه سؤال وجودي، يكون أو لا يكون؟». لقد أخفق المجلس على مدى أربعة عقود في تحقيق تطلعات شعوبه في بناء نظام إقليمي فرعي فاعل يوحد قدرات أعضائه ويواجه التحديات المشتركة ومن شأن رسوبه في هذا الامتحان أن يقذف به للمصير البائس الذي ذهب إليه من قبل مجلس التعاون العربي والمغاربي.

ثلاثة مسارات رئيسية، قد تجعل استجابة المجلس للتحدي تحويلا للمخاطر إلى فرصة وانتقالا من هامش رد الفعل إلى متن الفعل.

أولا الاعتراف بالحقائق: أي محاولة لتجاهل قسوة الحقائق الجيوسياسية التي عبرت عنها أول ضربة إسرائيلية لعاصمة من عواصم المجلس يحكم على استجابتها بالإخفاق ويؤدي لتآكل في الشرعية. وهذه هي بعض الحقائق:

لم تعد دول الخليج بعد ضربة الدوحة آمنة ولم تعد واحات منعزلة بمنأى عن الصراع العربي الإسرائيلي. لم يعد المفهوم السابق بأنها كدول ثرية ونمط من القوة الاقتصادية الناعمة والروابط مع الغرب سيجعلها دائما في أمان من العدوان وتنعم بمستوى معيشة مرتفع وتجتذب الاستثمارات والسياحة، بينما المنطقة من حولها مشتعلة كحلقة من نار.

المظلة الأمنية الأمريكية لمنطقة الخليج ثبت أنها لا تحمي أحدا وفقدت واشنطن في ضربة الدوحة مصداقيتها كشريك أمني قادر على حماية دول المجلس من الاعتداءات. وبدا أن القواعد الأمريكية المنتشرة كالفطر موجودة لا لتحمي العرب وإنما لتحمي إسرائيل. ففي حين لم تطلق طلقة واحدة من هذه القواعد بما فيها قاعدة «العديد» تجاه الطائرات الإسرائيلية التي هاجمت الدوحة، نجد أن هذه القواعد أثبتت فاعلية هائلة في الدفاع عن إسرائيل ضد الصواريخ الإيرانية في العامين الأخيرين، كما انطلقت منها معظم عمليات غزو العراق عام ٢٠٠٣.

سقطت السردية التي هيمنت على المنطقة في ٣٠ عاما الأخيرة وهي أن إسرائيل مدعومة من أمريكا تهاجم فقط الدول الراديكالية وأنها حليفة للدول المعتدلة؛ فها هي قطر الدولة المعتدلة التي توجد فيها أكبر قاعدة أمريكية وحليف استراتيجي أخرج واشنطن من وحل حرب أفغانستان تضرب عاصمتها في رابعة النهار بضوء أخضر أمريكي. الرسالة الإسرائيلية هي لا عدو ولا حليف ولا بعيد ولا قريب أصبح آمنا.

يتحدث الإسرائيليون عن سقوط حدود وسيادة دول المنطقة وعن عزمهم تغيير خرائط الشرق الأوسط وأنهم باعتراف توم براك مبعوث ترامب لا يعترفون بحدود سايكس/ بيكو وسيذهبون إلى حيث يريدون وقتما يريدون ويفعلون ما يريدون!

ويتحدثون عن شرق أوسط كبير سماواته مستباحة لسلاحها الجوي لا يسمح فيه لدفاعات وقوات جوية لأي جيش أن تتحدى يدها الطُّولى وتفرض على الدول المجاورة لها مناطق منزوعة السلاح وتحتل مناطق استراتيجية بها تشرف فيها على كل الإقليم ليخضع.

سقوط سردية الرطانة التي أريق فيها حبر مئات البيانات الصادرة عن الزيارات الأمريكية للمنطقة منذ خمسين عاما عن تحالف استراتيجي بين أمريكا ودول عربية معتدلة. في ضربة الدوحة ثبت أن الحليف الوحيد لأمريكا والامتداد الوظيفي للغرب الإمبريالي هي إسرائيل أما باقي الدول العربية فهي وسائل انتقال تستخدمها أمريكا حتى تصل لوجهة معينة ثم تستغني عنها.

ثانيا، بعد الاعتراف بالحقائق يأتي دور النضج الفكري الذي تحتاجه لحظة الخطر هذه، فالاعتداء على قطر هو عدوان على دول المجلس جميعها. ومن هنا فإن الشماتة واستحضار الحساسيات التاريخية وسنوات القطيعة بين بعض الدول في المجلس لا يفيد، والاعتقاد بأن المقصود هو قادة حماس وتيار سياسي بعينه هو وهم غير دقيق. تتلاعب إسرائيل بالعقول الآن وتقول إنها ستجمد دور قطر الإقليمي خاصة في الملف الفلسطيني وتمنحه لآخرين في المجلس وخارجه ولا ينبغي أن ينطلي ذلك على أحد في المجلس أو من العرب. جزء من هذا النضج يشمل كذلك بدء التوقف عن الاستماع للوبي الإسرائيلي- الأمريكي النافذ للأسف في جزء من النخبة العربية والخليجية والتي تعكس مصالح واشنطن أكثر مما تعكس مصالح بلدانهم والتي بدأت من الآن محاصرة القمة العربية والإسلامية بتثبيط الهمم والتخويف من اتخاذ مواقف تتجاوز الأقوال والبيانات الفارغة وتدافع بحق عن الكرامة الخليجية والعربية.

المسار الثالث، هو التصرف بحزم وعدم تهيب القيام بمخاطرة محسوبة للثأر ولردع أي عدوان إسرائيلي في المستقبل على عاصمة خليجية أخرى. إذا كانت مواجهة سياسية مع واشنطن مستبعدة في ضوء حجم التشابكات الخليجية مع واشنطن وما يسميه البعض بالاعتماد الاستراتيجي المتبادل معها، فإن معاقبة إسرائيل ممكنة وهناك مناخ دولي موات لهذه المعاقبة بسبب التوحش الإسرائيلي والعدوان اليومي على دول عدة في المنطقة وهذه بعض الإجراءات التي تمثل مخاطرة محسوبة وتكلفتها السياسية ليست جسيمة كتكلفة الخضوع للعدوان وإعطائه الخد الأيسر:

- تجميد العلاقات الدبلوماسية والتجارية والتعاون الأمني مع إسرائيل العلني منه والسري.

- تجميد اتفاقات إبراهام وإغلاق الباب الموارب أمام دخول دول أخرى فيه.

- العودة مرة أخرى إلى فكرة الحماية الذاتية بدلا من حماية المظلة الأمريكية عبر٣ خطوات مترابطة وهي: إعادة بناء قوة درع الجزيرة، وإحياء اتفاقية الدفاع العربي المشترك، وإحياء فكرة تشكيل قوة دفاع عربي مشترك، والاستفادة من فقد المصداقية الأمريكية في الخروج العاجل من حلف النقب وهو الفخ الأمريكي الإسرائيلي الرامي لتجنيد العرب في ناتو عربي إسرائيلي ضد إيران.

- استثمار القوة المالية والسوق الخليجي في الانضمام الرسمي للمقاطعة الشعبية منذ طوفان الأقصى للشركات العالمية التي تعمل مع إسرائيل.

- استثمار القوة المالية في تكوين فريق قانوني دولي رفيع ينضم لجنوب إفريقيا في دعواها لإدانة إسرائيل بجريمة الإبادة الجماعية.. ودعم المحكمة الجنائية الدولية في الصمود للعقوبات الأمريكية والضغط على الدول الموقعة على اتفاقية المحكمة في القبض على نتنياهو إذا خرج من إسرائيل باعتباره مجرم حرب.

- الإفادة من دورة الجمعية العامة هذا الشهر ودعوتها لعقد دورة استثنائية لصيغة «الاتحاد من أجل السلام» وهي صيغة تتيح إصدار قرارات ملزمة كقرارات مجلس الأمن. وتثبت الأغلبية الساحقة لقرار الجمعية قبل أيام بتأييد حل الدولتين أن الحصول على أغلبية مماثلة لقرارات بإنهاء الحرب في غزة وإنفاذ المساعدات وفرض قوات أممية تحمي الفلسطينيين في الضفة وغزة، وتعليق عضوية إسرائيل والاعتراف بالدولة الفلسطينية كعضو رقم ١٩٤في الأمم المتحدة هو شيء يمكن التجرؤ على عمله خاصة أن سوابقه معروفة وناجحة.

هذا اختبار تاريخي عسير ومحاولة الالتفاف عليه ببيانات إدانة أو خطوات لا قيمة لها في ردع التوحش الإسرائيلي ستحول الدول العربية إلى ميدان رماية مفتوح لإسرائيل تصطاد فيه بالأسلحة الأمريكية من تشاء وقتما تشاء ولن يكون بمأمن من ذلك بيت أو قصر لمواطن أو حاكم عربي.

حسين عبد الغني كاتب وصحفي مصري