ما بعد الحروب التجارية: نحو نظام تجاري جديد
الاحد / 21 / ربيع الأول / 1447 هـ - 21:00 - الاحد 14 سبتمبر 2025 21:00
ترجمة: نهى مصطفى -
انتهى نظام التجارة العالمي بصيغته المعهودة، وتوقفت منظمة التجارة العالمية فعليًّا عن أداء دورها، بعدما عجزت عن التفاوض أو الرقابة أو إنفاذ التزامات الأعضاء. تتخلّى اليوم عن مبادئ أساسية، مثل مبدأ «الدولة الأكثر رعاية» (MFN) الذي يُلزم أعضاء المنظمة بمعاملة بعضهم على قدم المساواة، باستثناء اتفاقيات التجارة الحرة، في وقت تهدد فيه واشنطن أو تفرض تعرفات جمركية تتراوح بين 10% وأكثر من 50% على عشرات الدول. وتعكس كل من استراتيجية «أمريكا أولا» التجارية، واستراتيجيتي «التداول المزدوج» و«صنع في الصين 2025» الصينيتين، تجاهلًا صريحًا للنظام القائم على القواعد، وتفضيلًا واضحًا لنظام قوامه القوة ليحل محله. وحتى إن بقيت بعض أجزاء النظام القديم، فإن الضرر قد وقع، ولا رجعة فيه.
رغم أن سياسات ترامب العدوانية سرعت انهيار نظام التجارة العالمي القائم على القواعد، فإن التراجع عن التجارة الحرة بدأ قبله وحظي بدعم الحزبين في واشنطن. لكن تفكيك هذا النظام بلا بديل سيجلب كلفة باهظة؛ إذ قد تقود الأحادية والحمائية الأمريكية، إلى جانب سياسات الصين التجارية، إلى عدوى انفلات عالمي تُضعف الإنتاجية وتبطئ النمو. ومع ذلك، فإن محاولة إحياء النظام القديم وهْم، والتخلي عنه لفوضى بلا قواعد خطر أكبر. المطلوب بناء نظام جديد من التحالفات المرنة بين دول متشابهة التوجه، يختلف في حجمه ومرونته عن النظام العالمي السابق، ويضم تحالفات متعددة الأهداف: من تحرير التجارة إلى حماية سلاسل التوريد أو الأمن القومي.
ورغم أنه سيكون أقل كفاءة اقتصاديًّا، فإنه قد يكون أكثر استدامة سياسيًّا، والأهم: قادر على كبح الأحادية، ما يسمح بقيام اقتصاد تحكمه القواعد حتى في غياب نظام عالمي موحد.
نشأ النظام التجاري العالمي في إطار بنية متعددة الأطراف قادتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، عبر مؤسسات كصندوق النقد والبنك الدولي، ثم «الجات» التي تطورت إلى منظمة التجارة العالمية عام 1995، لتضم اليوم أكثر من 160 دولة تمثل 98% من التجارة العالمية. بعد الحرب الباردة، سعت واشنطن لدمج خصوم سابقين كروسيا وقوى ناشئة كالصين لتعزيز الاستقرار وخدمة مصالحها. لكن النظام واجه معارضة مبكرة منذ الجدل حول «نافتا» في التسعينيات، وبلغت ذروتها في احتجاجات سياتل عام 1999.
نالت السياسة التجارية اهتمامًا مبالغًا فيه في تفسير التحولات الاقتصادية، إذ يخلط كثيرون بين آثارها وآثار العولمة التي كانت ثمرة التقدم التكنولوجي أكثر من الاتفاقيات التجارية. فقد خفضت حاويات الشحن منذ الستينيات تكاليف النقل بنحو الثلث إلى النصف، وسمح انتشار الإنترنت بإنجاز خدمات متعددة عن بُعد، مما شجع سلاسل التوريد العالمية. أما التراجع الكبير في وظائف التصنيع الأمريكية فنتج أساسًا عن زيادة الإنتاجية، لا عن التجارة، إذ شكّلت الأخيرة 13% فقط من خسائر وظائف 2000-2010، وبدأ التراجع قبل أي اتفاقيات كبرى وشمل معظم الدول الصناعية، حتى ألمانيا. وسرّع صعود الصين هذا التراجع لكنه لم يكن سببه الرئيسي.
أحد أسباب الحذر من التجارة اليوم هو أن النظام القائم على القواعد لم يتوقع صعود الصين. فقد أحدثت «صدمة الصين» إغلاقًا واسعًا للمصانع الأمريكية وكشفت ثغرات في النظام متعدد الأطراف، منها ضعف قيود دعم الدولة والسلوك غير السوقي للشركات المملوكة للدولة، وضعف حماية الملكية الفكرية، وصعوبة إنهاء وضع «الدولة النامية»، واشتراط الإجماع الذي يعطل الإصلاح. وعند انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 توقّع كثيرون تحولها إلى اقتصاد سوق، لكن الإصلاح توقف ثم تراجع في عهد شي جين بينج، وباتت قواعد المنظمة عاجزة عن التعامل مع نموذجها القائم على دعم الدولة. وتفاقمت المشكلة بحجم الصين الضخم، إذ بلغ فائضها الصناعي نحو تريليون دولار العام الماضي، وقد تصل إلى 45% من الإنتاج الصناعي العالمي بنهاية العقد.
توقفت وظائف منظمة التجارة العالمية الثلاث: فشلت كمحفل تفاوضي إلا في اتفاقيات هامشية مثل اتفاقية تيسير التجارة، وكهيئة رقابية لا تملك وسيلة لردع الاقتصادات الكبرى عن خرق التزاماتها، وكجهة لتسوية النزاعات تعطلت بسبب شلل هيئة الاستئناف بعد رفض واشنطن تعيين أعضائها.
مع ذلك، لا ينبغي تجاهل فوائد النظام التجاري: فقد ساعد في انتشال ما يصل إلى مليار شخص من الفقر، ووفق البنك الدولي كانت التجارة محرّكًا قويًّا للنمو وخفض الفقر. بين 1990 و2017 تضاعف الناتج العالمي ثلاث مرات تقريبًا، وارتفعت حصة الدول النامية من الصادرات من 16% إلى 30%، وانخفض الفقر العالمي من 36% إلى 9%. كما استفاد المستهلكون الأمريكيون من سلع أكثر تنوعًا وبأسعار أقل؛ إذ وجدت دراسة لبنك الاحتياطي الفيدرالي في مينيابوليس أن خفض تكاليف الاستيراد 10% يحقق مكاسب رفاه أكبر للأسر الفقيرة تبلغ 4.5 ضعف مكاسب الأسر الغنية، كما أشار مايكل وو. وساهمت اتفاقيات التجارة في تسهيل تصدير المنتجات الأمريكية بإزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية التي كانت أعلى في الخارج من السوق الأمريكية نفسها.
قللت التجارة من الحاجة لنقل الإنتاج إلى الخارج ودعمت وظائف أمريكية ذات أجور أعلى. منذ تأسيس منظمة التجارة العالمية، ارتفعت صادرات السلع بأكثر من 150% والواردات بأكثر من 250% (بعد تعديل التضخم). ووفق مكتب الإحصاء الأمريكي (1992- 2019)، تحقق الشركات التجارية معدلات أعلى لخلق الوظائف مقارنة بغيرها. كما قدّر معهد بيترسون أن الناتج الأمريكي عام 2022 كان سينخفض بـ2.6 تريليون دولار لولا مكاسب التجارة، أي نحو 19,500 دولار للأسرة الأمريكية.
ساهمت السياسة التجارية في تحسين معايير البيئة والعمل والملكية الفكرية ومكافحة الفساد عبر الضغط على الدول الأخرى، كما في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي التي كانت ستفتح أسواقًا مثل اليابان وتُلزم دولًا ناشئة مثل ماليزيا وفيتنام بمعايير قابلة للتنفيذ، مقابل تخفيضات جمركية أمريكية كانت منخفضة أصلًا (متوسط 3% قبل إدارة ترامب). لكن فوائد تحرير التجارة واسعة وغير ملموسة، بينما تتركز أضرارها في صناعات محددة. أبرز مثال هو «صدمة الصين»: بين 1999 و2011 أدت الواردات الصينية إلى فقدان نحو مليوني وظيفة أمريكية، منها مليون في التصنيع، رغم أن حوالي 50 مليون عامل أمريكي يواجهون فصلًا وظيفيًّا سنويًّا. تركزت هذه الخسائر في مجتمعات تعتمد على صناعات انهارت سريعًا ولم تستطع استبدالها، في ظل غياب سياسات انتقال عمالي فعالة وتنمية محلية تعالج آثار العولمة، فجوة لا تزال قائمة.
على مدى سنوات، كان تعامل واشنطن مع عيوب النظام التجاري العالمي ارتجاليًّا. فرضت إدارة ترامب الأولى تعرفات واسعة على الصين، وأخرى محددة على الحلفاء، وتوصلت مع بكين إلى اتفاق شراء لم تلتزم به. أبقت إدارة بايدن على معظم تعرفات ترامب وأضافت أخرى، وابتكرت ضوابط تصدير وقيود استثمار وسياسات صناعية تركز على صناعات استراتيجية مثل أشباه الموصلات والمركبات الكهربائية، لكن من دون إطار واضح يحد من تحولها إلى حماية تجارية صريحة. مبادراتها مثل «الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادي» و«شراكة الأمريكتين» كان تأثيرها محدودًا لغياب الوصول إلى الأسواق. ورغم دعوتها لإصلاح منظمة التجارة العالمية، تصرفت إدارة بايدن عمومًا ضمن النظام القائم على القواعد، في حين تسعى إدارة ترامب الثانية إلى تفكيكه بالكامل.
ففي 2 أبريل أعلن ترامب «يوم التحرير» وفرض رسومًا متبادلة تصل إلى 50% على عشرات الدول، وبدأ يربطها بقضايا غير تجارية كالهجرة والفنتانيل وأوكرانيا وحتى النظام القضائي في البرازيل، ملوّحًا بعقد صفقات أحادية عند تعثر المفاوضات.
بغض النظر عن مستوى الرسوم، من شبه المؤكد أن تنتهي الحروب التجارية الحالية بحواجز أعلى، ما يفرض تكاليف على المستهلكين وتحديات للشركات الأمريكية، إذ إن أكثر من نصف واردات الولايات المتحدة سلع وسيطة تدخل في الإنتاج. ارتفاع تكلفتها أو صعوبة الحصول عليها يجعل المنتجات الأمريكية أقل تنافسية، كما حدث بعد رسوم ترامب في 2018 (25% على الصلب و10% على الألمنيوم). خلص كادي روس وليديا كوكس إلى أن هذه الرسوم أوجدت نحو 1000 وظيفة في إنتاج الصلب، لكنها تسببت بخسارة نحو 75 ألف وظيفة تصنيع تعتمد على الصلب أو الألمنيوم. كما ذكر بن ستيل وإليزابيث هاردينج أن إنتاجية صناعة الصلب الأمريكية تراجعت 32% منذ 2017.
وإذا كان هدف ترامب زيادة وظائف التصنيع، فنهجه قد يحقق العكس. إضافة إلى ذلك، قد ترد الدول بفرض تعرفات وقيود مماثلة، ما يضر بالصادرات الأمريكية، خصوصًا الزراعية. وقد توسع استخدام مبررات الأمن القومي لتسليح التجارة؛ فترامب استخدمها لفرض قيود على الصلب والألمنيوم والسيارات حتى من حلفاء واشنطن، وتزايد تقليد هذا النهج عالميًّا. في 2024، سجّل عدد قياسي من لوائح «الحواجز الفنية أمام التجارة» في منظمة التجارة العالمية إشارات إلى مخاوف الأمن القومي شملت سلعًا من الكاكاو إلى المشروبات الكحولية وأعلاف الحيوانات.
تُفاقم حالة عدم اليقين التي يخلقها نهج ترامب كلفة الحروب التجارية، إذ يميل المستهلكون والشركات والمستثمرون إلى التراجع عند غموض التوقعات الاقتصادية أو احتمال فرض رسوم جديدة، ما قد يبطئ النمو ويؤدي حتى إلى ركود. وهكذا تخوض الولايات المتحدة تجربة كبرى تُقلب الاقتصاد السياسي للتجارة رأسًا على عقب: تكاليف فورية يشعر بها معظم الأمريكيين، مقابل فوائد محتملة ومحدودة لعدد قليل من العمال بعد سنوات، إن تحققت. سيحدد ردّ الجمهور ما إذا كان مستعدًا لتحمّل تضحيات قصيرة الأجل من أجل رؤية ترامب لإعادة التصنيع، لكن من الواضح أنه لا عودة للنظام التجاري السابق.
اليوم، تتجه سياسة التجارة نحو منطق «القوة تصنع الحق»: تتصرف الولايات المتحدة بشكل أحادي لقوة اقتصادها، وتفعل الصين الشيء نفسه رغم ادعاء التعددية. هذا النهج يهدد بانتشار العدوى ودوامات من الأحادية قد تخرج عن السيطرة، مع دول ترفض النظام القائم على القواعد أو تقوّضه سرًا. النتيجة المحتملة: حواجز متزايدة تبطئ النمو وتضر بالإنتاجية، ونظام تجاري يشبه ما قبل الحرب العالمية الثانية، حين استُخدمت التجارة كسلاح. وقد تبدو المكاسب قصيرة الأجل جذابة للقوى الكبرى، لكن العواقب بعيدة المدى غالبًا ستكون وخيمة، فيما تبقى الدول الأصغر والأفقر عاجزة عن استخدام الرسوم والقيود كسلاح مماثل.
تحاول دول عدة الحفاظ على النظام التجاري القائم رغم تحولات الولايات المتحدة والصين، إدراكًا أن التخلي عنه يعني العودة إلى منطق «إفقار الجار». يصعب على الاتحاد الأوروبي، المتجذر في فكرة التكامل القائم على القواعد، تبني نهج أحادي، فيما تعتمد الدول النامية على منظمة التجارة العالمية وآلية تسوية النزاعات لضمان تكافؤ الفرص. لذا سيبقى تكتل من الدول متمسكًا بالنظام متعدد الأطراف، على أمل عودة واشنطن إليه والتزام بكين به، رغم أن التجربة قد تنتهي محبِطة كما حدث في قضية المناخ.
ومع استحالة العودة للنظام القديم وخطر الفوضى، يظهر خيار بناء نظام جديد قائم على «التعددية المفتوحة»: تحالفات من دول تشترك في مصالح محددة وتضع معايير عالية، وتظل مفتوحة لانضمام من يلتزم بهذه المعايير. قد تشمل هذه التحالفات تحرير التجارة، أو تنسيق اللوائح، أو التعامل مع قضايا ناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، ولو بشكل غير رسمي وغير ملزم، على غرار مجلس الاستقرار المالي الذي أُنشئ بعد أزمة 2008. ويمكن لأي دولة رفض الانضمام إذا رأت أن كلفة التنازلات تفوق الفوائد.
ولتشجيع الدول على الانضمام، لا يكفي التهديد بالتعرفات (العصا)، بل يجب أن ترى هذه الدول مصلحة في التحالف مع واشنطن. أحد الحوافز هو إتاحة الوصول إلى النظام الأمريكي الفريد للابتكار (جامعات رائدة، استثمار في البحث والتطوير، سيادة القانون، أسواق رأسمال عميقة، تمويل مخاطر، وثقافة ريادة أعمال)، وهو ما يهدده بعض سياسات ترامب حاليًّا. لكن الحفاظ على ريادة أمريكا العلمية والتكنولوجية يظل أساسيًّا، ويمكن للدول الأعضاء في التحالف نيل وصول تفضيلي إلى هذه المنظومة مقابل التوافق على مصالح اقتصادية وأمنية مشتركة.
ستكون هذه التحالفات مفتوحة أمام أي دولة قادرة وراغبة في الالتزام بالمعايير. قد تكون صغيرة جدًا، مثل تحالف لتأمين سلاسل توريد أشباه الموصلات يضم اليابان وهولندا وكوريا الجنوبية وتايوان، أو أوسع مثل الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP) التي تأسست دون مشاركة الولايات المتحدة.
قد تتلاشى منظمة التجارة العالمية أو تبقى كمنتدى لتسوية النزاعات للدول غير المنضمة لتحالفات أكثر جاذبية. ستستمر اتفاقيات التجارة الحرة وقد تشكّل قاعدة لتحالفات أوسع، مثل احتمال انضمام الاتحاد الأوروبي إلى CPTPP كما فعلت المملكة المتحدة. رغم أن التعددية المفتوحة تتخلى فعليًّا عن مبدأ الدولة الأولى بالرعاية، وقد تبدو فوضوية وغير فعالة، فإن مرونتها تجعلها أكثر واقعية واستدامة سياسيًّا من النظام المتعدد الأطراف القائم على القواعد، إذ تسمح بالتقدم بين من يشاركون الرؤية والقدرة، وتتيح ضم قضايا وأعضاء جدد عند توافر المعايير.
مايكل ب. ج. فورمان هو رئيس مجلس العلاقات الخارجية. شغل منصب الممثل التجاري للولايات المتحدة من عام ٢٠١٣ إلى عام ٢٠١٧، ونائب مستشار الأمن القومي للشؤون الاقتصادية الدولية من عام ٢٠٠٩ إلى عام ٢٠١٣.
عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»