الوعد الأجوف للنظام العالمي الجديد
الاحد / 21 / ربيع الأول / 1447 هـ - 20:49 - الاحد 14 سبتمبر 2025 20:49
ترجمة: أحمد شافعي -
مرت الشهر الحالي الذكرى الخامسة والثلاثون لخطاب جورج بوش الأب في الحادي عشر من سبتمبر سنة 1990 أمام الكونجرس، وهو الخطاب الذي عرض فيه على الأمريكيين رؤيته لـ«النظام العالمي الجديد». وجدير بنا أن ننظر في الانحراف الدراماتيكي لذلك الوعد الطوباوي عن الواقع الفوضوي في السياسة الدولية.
واقفا أمام الكونجرس في لحظة احتلال القوات العراقية للكويت، رسم بوش صورة لتعاون عالمي غير مسبوق. إذ أعلن قائلا «إننا نقف اليوم في لحظة فريدة واستثنائية» مصورا عالما تحقق فيه الأمم المتحدة أخيرا وعدها التأسيسي، ويلقى فيه العدوان رد فعل دوليا موحدا، وتتولى فيه القيادة الأمريكية هداية الإنسانية إلى مستقبل أكثر سلاما ورخاء.
حرب الخليج ومنطق الإحسان والهيمنة
كان نظام بوش العالمي الجديد يمثل قمة ما قد نطلق عليه «مثالية الهيمنة»، أي الاعتقاد بأن القوة الأمريكية في حال استعمالها الاستعمال الصحيح قد تعيد صوغ النظام الدولي صوغا ديمقراطيا. وكان انهيار الاتحاد السوفييتي قد بدا وكأنه يبرر عقودا من استراتيجية الاحتواء، ويترك الولايات المتحدة وهي القوة العظمى العالمية الأولى بحق في التاريخ. فأي شيء أكثر طبيعية من استعمال «لحظة الأحادية القطبية» هذه في إرساء سلام دائم؟
بدت حرب الخليج نفسها تبرر هذه الرؤية. فقد سارع تحالف دولي واسع يعمل بإشراف الأمم المتحدة إلى طرد القوات العراقية من الكويت دونما خسائر إلا القليل في أرواح الأمريكيين. بدا أن لتعددية الأطراف أنيابا ودعما من التفوق العسكري الأمريكي الطاغي. وبدا أن أشباح فيتنام قد مضت بعد طول انتظار.
لكن هذا الانتصار، شأن الكثير غيره، احتوى بذور كوارث مستقبلية. فالانتصار اليسير للغاية الذي تحقق في الخليج شجّع تصورات شديدة الغرور عن القدرات الأمريكية وعن مرونة السياسة الدولية. فلو أن دحر صدام حسين تيسر بتلك السهولة، فلم لا يجري تطبيق الصيغة نفسها في أماكن أخرى؟ ولم لا يتم توسيع الناتو شرقا، والتدخل في البلقان، وإحلال الديمقراطية في الشرق الأوسط، واحتواء القوى الصاعدة من قبيل الصين؟
تكلفة التوسع الأمريكي المفرط
بعد خمسة وثلاثين عاما، يبدو النظام العالمي الجديد أقل شبها بنصر القيادة الأمريكية من شبهه بحكاية تحذيرية متعلقة بالتوسع الاستعماري المفرط. فقد خاضت الولايات المتحدة حروبا في الصومال وهاييتي والبوسنة وكوسوفو وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا انتهى أغلبها إلى نتائج أشد فوضوية من الدقة الجراحية التي اتسمت بها عملية عاصفة الصحراء. وكان كل تدخل يفضي إلى التزامات جديدة، وأعداء جدد، وتعقيدات جديدة استوجبت المزيد من التدخلات لإدارتها.
وانظروا إلى المنحنى الممتد من انتصار بوش المحكوم سنة 1991 إلى تدخل ابنه الكارثي في العراق سنة 2003. فقد احتفظ نظام بوش الأب العالمي الجديد، على الأقل، ببعض الصلة بسياسات القوى العظمى المعهودة، من قبيل تكوين تحالفات حقيقية والحصول على تفويض أممي وتحقيق أهداف محدودة. أما «أجندة الحرية» الخاصة ببوش الصغير فتخلت تماما عن هذه الدقائق متبنية رؤية مشيحانية للقوة الأمريكية كان ليخجل منها وودرو ويلسن.
والنتائج غنية عن أي تفسير: حروب بلا نهاية، ودين يبلغ التريليونات، ومئات آلاف الخسائر في الأرواح، وشرق أوسط أقل استقرارا بكثير مما كان في 1990. في الوقت نفسه، تكشفت المنافع المنتظرة -من نشر للديمقراطية وتقوية للقانون الدولي وإنهاء للانتشار النووي وزوال لتنافس القوى العظمى- عن محض أوهام.
عودة التاريخ
لعل أكبر ضرر لحق بمصداقية النظام العالمي الجديد تمثل في رجوع التنافس الجيوسياسي التقليدي. فقد أظهرت روسيا مرارا، في ظل حكم بوتين، أن ما تردد عن وفاة التاريخ كان ينطوي على مبالغات كبيرة، سواء في جورجيا أو القرم أو أوكرانيا. ولا يتحدى صعود الصين الهيمنة الاقتصادية الأمريكية وحدها وإنما كامل النظام الدولي الليبرالي الذي قضت واشنطن عقودا في إقامته. وحتى القوى الوسطى من قبيل إيران وكوريا الشمالية نجحت في تحدي الضغط الأمريكي من خلال استراتيجيات غير متكافئة وانتشار الأسلحة النووية.
وتكشف هذه التطورات عيبا أساسيا في مفهوم النظام العالمي الجديد هو افتراض أن الأمم الأخرى سوف تقبل بصورة سلبية السيادة الأمريكية الدائمة. إذ لم تقتض رؤية بوش القوة الأمريكية وحسب، وإنما الرضوخ والتعاون من العالم، وقبول قوى أخرى بالتخلي عن طموحاتها الخاصة لحساب نظام تقوده واشنطن. وكان هذا دائما طرحا مستبعدا، لم يدم إلا لبرهة عابرة كان فيها المنافسون المحتملون أضعف أو أقل تركيزا من أن يمثلوا تحديات فعالة.
البعد الداخلي
يعكس فشل النظام العالمي الجديد أيضا واقعا أمريكيا محليا إما أن بوش تجاهله أو أساء فهمه. فالحفاظ على الهيمنة العالمية يستوجب موارد هائلة والتزاما شعبيا. وقد ساند الشعب الأمريكي حرب الخليج لأنها كانت واضحة الأهداف وذات دعم دولي عريض وتكاليف ضئيلة. لكنهم أبدوا قدرا أقل كثيرا من الحماس حيال مشاريع بناء الأمم المفتوحة أو مواجهة كل نظام حكم استبدادي على وجه الأرض.
وهذا الانفصال بين طموحات النخبة والميول الشعبية أسهم في صعود الحركات الشعبوية المشككة في الدور العالمي الأمريكي. فمن انعزالية بات بوكانان في تسعينيات القرن الماضي إلى أجندة «أمريكا أولا» لدونالد ترامب، رفضت قطاعات كبيرة من الناخبين الأمريكيين مبادئ النظام العالمي الجديد. وبدأوا يتساءلون، غير منافين للمنطق، عن سبب إهدار الدم والثروة الأمريكيين في ممارسة دور شرطي العالم في حين تبقى مشكلات محلية بغير علاج.
دروس للمستقبل
فيما نحيي ذكرى خطاب بوش الخامسة والثلاثين قد ينظر صناع السياسة فيما وقع من أخطاء وفي كيفية إعادة صوغ السياسة الخارجية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين. وهنا يظهر العديد من الدروس:
أولا: كانت الأحادية القطبية مؤقتة دائما. وبدلا من محاولة الحفاظ على السيادة الأمريكية إلى الأبد، كان يجدر بواشنطن أن تستغل تسعينيات القرن الماضي في إقامة نظام متعدد الأقطاب أكثر ثباتا، يمنح لقوى أخرى أدوارا شرعية مع ضمان المصالح الأمريكية الجوهرية.
ثانيا: ليس للقوة العسكرية غير نفع محدود في تحقيق التحولات السياسية. فقد نجحت حرب الخليج لأنها كانت متواضعة الأهداف -إذ تمثلت أهدافها في طرد العراق من الكويت ومنع أي عدوان مستقبلي. ثم فشلت التدخلات التالية لأنها سعت إلى أهداف أبعد طموحا لا يمكن للقوة العسكرية وحدها أن تحققها.
ثالثا: يستوجب الدعم الشعبي للسياسة الخارجية منافع ملموسة للأمريكيين العاديين. فالنزعة الدولية التي تثري مقاولي الدفاع ونخب السياسة الخارجية وتفرض التكاليف على كل من عداهم غير ممكنة الدوام سياسيا في بلد ديمقراطي.
نحو نظام عالمي أكثر واقعية
بدلا من البكاء على زوال النظام العالمي الجديد، قد يتبنى الأمريكيون نهجا أشد تواضعا واستدامة في الشئون الدولية. ويتعلق هذا بالدفاع عن المصالح الحيوية بدلا من محاولة حل كل مشكلة عالمية، والعمل مع الحلفاء بوصفهم شركاء حقيقيين لا تابعين، والاعتراف بأن للقوى الأخرى مخاوف أمنية مشروعة وتستحق الاحترام.
ومثل هذا النهج لن يتخلى عن القيادة الأمريكية بل سيمارسها بمزيد من الحكمة. وسوف يركز على الأهداف الجوهرية -أي حماية أرض الوطن، والحفاظ على علاقات التحالفات، وضمان الرخاء الاقتصادي- مع اجتناب الحملات الصليبية الدون كيخوتية.
لقد مثَّل خطاب جورج بوش الأب سنة 1990 لحظة خاصة لا تعوض في التاريخ بدت فيها القوة الأمريكية غير محدودة والمشكلات العالمية سهلة العلاج. ولكننا بعد خمسة وثلاثين عاما بتنا نعرف ما لم نكن نعرف. فالتحدي الذي يواجه القادة المعاصرين يكمن في صياغة سياسة خارجية تناسب عالما يحظى فيه النفوذ الأمريكي بثقل ولكنه ليس مطلقا بلا حدود، ففي هذا العالم قوى أخرى تطالب بالاحترام، وفيه يتوقع الشعب الأمريكي من حكومته أن تعلي أولوية رفاهيته على الالتزامات الدولية المجردة.
لقد مات النظام العالمي الجديد، ليحيا دور أمريكي أكثر واقعية واستدامة في العالم.
ليون هادار محرر مشارك في مجلة «ذا ناشونال إنترست»، وزميل أول في معهد أبحاث السياسة الخارجية (FPRI) في فيلادلفيا، وباحث سابق في دراسات السياسة الخارجية في معهد كاتو.
عن ذي ناشونال إنتريست