أعمدة

احمني مما أريد!

«إنني معنيّة الآن بإبطاء الوقت»، هذا ما قالته لي رفيقتي، ونحن في نزهة قصيرة بقريتنا البعيدة.

بدت جملتها كتمردٍ صغير على إيقاع العصر الآلي.

ثمّ فسرت الأمر بأنّ ذهابها الأخير إلى البحر، لمراقبة تلوّن السماء بحمرة الشفق، خفيفة اليدين بلا هاتفٍ يقتنصُ لحظة الغروب منها، أطال إحساسها العميق ببهجة البطء!

ثمّ انعطفنا بحديثنا عن الفارق الجوهري بين الزمن الذي يُعاش في المدن وذاك الذي يُعاش في قُرانا النائية، حيث تُدار الأحاديث على مهل، تماما كما قد يرتشفُ أحدهم فنجان قهوة، غير مُتعجلٍ أو مُنتظرٍ لحدوث شيء ما!

فالزمن الذي يحكي فيه الأجداد عن توقيت فصل العجول عن أمهاتها، أو عن الدجاجات اللواتي يبتن خارج الأقفاص، أو عن النخل وتحديره وإنباته، وشح المطر، هو زمن مُمتد برتمٍ بطيء، وكأنّ وحدة قياس الزمن تنحتُ نفسها من تحوّلات الطبيعة وطقس العيش، وكأن الزمن النفسي يتحرر ليصبُ في مجرى مُغاير!

ثمّ اقترحت الصديقة أن نُشاهد فيلم in time، ففي عالمه المُتخيَّل، لا يحتكمُ الناسُ -في تعاملاتهم- إلى النقود بل إلى أعمارهم المُسجلة على أذرعهم؛ فتسيلُ الدقائق والثواني كما تسيلُ مياه عذبة إلى مصرفٍ لا عودة منه، فيغدو الأجر الذي يتقاضاه العامل وقتًا، والفواتير التي تُسدّد خصما من دقائق العمر..

الطعام والمواصلات والمُتع تُشترى بالوقت.

عداد وقت الفقير قصير، بينما يتمتعُ الغني بأرصدة خرافية! بشرٌ على حافة العد التنازلي، وآخرون ينعمون بوقت لامحدود!!

هنالك من يرضخ لواقعه المرير، هنالك من يُقامر بالوقت أو يسرقه، وعلى الضفة الأخرى هنالك من يمنح وقته«عمره» للآخرين.

فيظهر في مجتمع الأغنياء فقيرٌ يُطلقُ عليه «محدثُ وقت»!

يستعيرُ الفيلم حياتنا التي يقبضُ عليها الزمن بقبضته الفولاذية، وسلطته العارمة التي تجردنا من المعنى الأسمى لوجودنا! فيمضي العمر في اللهاث وراء امتلاك الوقت بدلا من عيش تجرّبة صادقة! ويتحول الزمن لأداة قمع اجتماعية اقتصادية وسياسية تُحتكرُ بأيدي مجتمعات مُحددة وتسلبُ من الأخرى، عوض أن يتجلى -الوقت- في صوره الأشد سطوعا!

حمل أبطال الفيلم الزمن فوق أذرعهم وأخذوا يراقبونه في حياة محاطة بالتشويش والغرابة..

وآنذاك تساءلنا: ماذا لو أبدينا أقلّ ما نستطيع من مقاومة، لهذا الشلال الذي نغمرُ أنفسنا أسفله كل يوم!

نحنُ عادة نقاوم الإكراهات الخارجية ونتمردُ عليها، ولكن ماذا يحدث عندما نعتبرُ «القهر حرية»! كما يشيرُ لذلك الفيلسوف بيونغ- شول هان، الذي بدأ كتابه بعبارة مستعارة: «احمني مما أريد».

يرى هان بأنّنا لا نختلف كثيرا عن عبودية المجتمعات الإقطاعية في العصور الوسطى، فأمراء الإقطاعيات الرقمية يجعلوننا نحرثُ أرضهم ببياناتنا، بينما يتمُ التلاعب بنا عبر إيهامنا بحريتنا الكاملة!

وإن كانت صديقتي تحتمي بالتأمل ومشاهدة الأفلام، فكنتُ أحاول أيضا أن احتمي بدرع القراءة، باعتبارها شكلا من أشكال الخروج من «التزمن» ومن تزمت الآلة، عبر التحايل عليهما..

ظنا منا أنّ الوعي اليقظ أكثر ما يحمينا من مغبة المجهول القاتم. القراءة، تلك التجربة العظيمة التي تجعلنا مُلتحمين بنسيج حيوات لا مُتناهية، هي المنقذ الأبدي حتما.

إنّ لهاث الإنسان وراء إبطاء الزمن أو التحكّم فيه، لهاث قديم، بدأ منذ أسطورة بحثه عن إكسير الحياة، وامتدّ حتى أوهام التقنية الحديثة.

فمنذ البدء وهو مسكونٌ بهاجس هشاشته أمام فكرة «تزمنه» التي لا تفضي إلا إلى الفناء وتناقص العمر!

«لا يمكن لمخرجات الآلة أن تتجاوز مدخلاتها»، هذا ما يدركه بيونغ شول هان، على نقيض معجزة الحياة التي بمقدورها أن تتجاوز مدخلاتها دوما، غير أنّ ما يغيب عن وعينا، ونحن في سباقنا المحموم هذا، أنّ المعنى يتخفّى غالبًا تحت ملاءات المعاناة، وأن القيمة الحقيقية لا تُستخلص من التسارع المُدوخ، بل من تأملِ بطء العيش بوصفه ماهيةً لنا.

هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»