ندوة "ظفار في ذاكرة التاريخ العُماني" تسلط الضوء على مكانة المحافظة في مسار الحضارة العُمانية
الاحد / 21 / ربيع الأول / 1447 هـ - 19:23 - الاحد 14 سبتمبر 2025 19:23
تغطية ـ فيصل بن سعيد العلوي -
بدأت اليوم في محافظة ظفار ندوة 'ظفار في ذاكرة التاريخ العُماني'، التي تنظمها هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية بالتعاون مع محافظة ظفار والتي تتواصل فعالياتها حتى الثلاثاء، متضمنة سبع جلسات علمية تعرض فيها 33 ورقة عمل توزعت على خمسة محاور رئيسة تناقش موضوعات متنوعة في التاريخ العُماني، والاقتصاد والمجتمع، والثقافة والعلوم، إلى جانب دراسات متعمقة في الوثائق والمخطوطات والرواية الشفوية.
وكانت الندوة قد افتتحت اليوم برعاية صاحب السمو السيد مروان بن تركي آل سعيد، محافظ ظفار، وذلك في قاعة فندق ميلينيوم صلالة بحضور نخبة من الأكاديميين والباحثين من داخل سلطنة عُمان وخارجها، وقد تضمن حفل الافتتاح عرض فيلم وثائقي بعنوان 'ظفار أرض الذهب الأبيض' تناول محافظة ظفار ومكانتها التاريخية، ثم قدم الشاعر حمود بن علي العيسري قصيدة بعنوان 'هتاف في سمع الزمان'، كما ألقى سعادة الدكتور حمد بن محمد الضوياني رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، كلمة أكد فيها على الدور الريادي الذي تضطلع به الهيئة في إبراز الجوانب الحضارية والتاريخية والفكرية لسلطنة عُمان، وما قدمته عبر تاريخها العريق من إسهامات في نشر قيم التسامح والسلام وبناء علاقات واسعة مع دول العالم.
وأشار 'الضوياني' إلى ما تكشفه الوثائق من إنجازات العُمانيين في مختلف العلوم والمعارف، ومنها علم الفلك والملاحة البحرية، وما كان لذلك من أثر بارز في ازدهار التجارة ونشر رسالة الإسلام، كما نوّه إلى أن عُمان شكّلت عبر القرون نموذجا في التراحم والوحدة الوطنية، متمسكة بمبادئها الإنسانية، وهو ما انعكس على استقرارها وامتداد علاقاتها الدولية.
وأكد 'الضوياني' أن الوعي بالتراث واستثماره يمثل أساسا لبناء الحاضر والمستقبل، خاصة في ظل النهضة المتواصلة بقيادة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ.
ظفار ومسمياتها التاريخية
وانطلقت أولى جلسات المؤتمر في يومه الأول برئاسة الدكتور علي بن سعيد الريامي حيث قدم الباحث في التاريخ العماني سعيد بن خالد العمري ورقة بعنوان 'ظفار مسمياتها التاريخية والاستيطان البشري القديم حسب المصادر التاريخية ونتائج التنقيب الأثري' والتي ناقش فيها الأسماء التي عرفت بها ظفار عبر التاريخ، حيث رصد حركة الاستيطان البشري القديم فيها استنادا إلى المصادر المكتوبة والنقشية ونتائج التنقيبات الأثرية، واعتمد في دراسته على عدد من المصادر التاريخية والجغرافية والنقوش القديمة، إضافة إلى نتائج المسح الأثري الذي كشف عن العوامل المناخية المؤثرة في حركة الاستيطان البشري بالمنطقة.
وبيّن 'العمري' أن لظفار أسماء ومسميات قديمة متعددة مثل ساكلن، وأرض اللبان، وبلاد الشحر، والأحقاف، كما توقف عند معنى اسم ظفار ودلالاته في المصادر واللغات واللهجات المحلية، موضحا أن حركة الاستيطان البشري القديم في ظفار بدأت من منطقة النجد، قبل أن تنتقل بفعل موجات الجفاف والتصحر إلى السواحل والمرتفعات الجبلية.
وقد تناول الباحث هذه القضية من خلال محورين رئيسيين 'الأول' أسماء ظفار ومسمياتها التاريخية، مستعرضا أسماء ظفار في المصادر الكلاسيكية والنقوش الأثرية، وتطور استعمال اسم ظفار من مسمى لمدينة محدودة إلى أن أصبح يشمل الإقليم بأكمله كما هو الحال اليوم.
و'المحور الثاني' الاستيطان البشري القديم في ظفار، وتناول فيه المراحل الزمنية التي مرت بها المنطقة، بدءا من العصور الجيولوجية وعصور ما قبل التاريخ، مرورا بالعصر الحجري القديم والوسيط والحديث، وصولا إلى تكوّن التجمعات البشرية واستقرارها في مختلف المواقع، مؤكدا في ختام ورقته عن عمق الامتداد التاريخي لظفار، ودور العوامل الطبيعية والتاريخية في تشكيل مسارها الحضاري عبر العصور.
دراسة في الوثائق الصينية
وفي الجلسة ذاتها قدم الدكتور حبيب بن مرهون الهادي أخصائي مناهج التاريخ بوزارة التربية والتعليم، ورقة بعنوان 'ظفار في نهايات العصور الوسطى.. دراسة في الوثائق الصينية'، ناقش فيها العلاقات التي قامت بين ظفار والحضارة الصينية، مستعرضا ما تميزت به المنطقة من شهرة واسعة في إنتاج اللبان الذي جعلها محط اهتمام حضارات العالم منذ العصور القديمة، وأشار 'الهادي' إلى أن الحوليات الصينية ذكرت احتكار امبراطور الصين لتجارة اللبان الظفاري، وأن تلك العلاقات شهدت ازدهارا ملحوظا في العصور الوسطى، حيث أوردت الوثائق الصينية أسماء بعض حكام ظفار وسفرائها لدى الصين.
وأضاف: أن هذه العلاقات بلغت أوجها أثناء رحلات الأسطول الصيني إلى البلاد العربية في بدايات القرن الخامس عشر الميلادي بقيادة الأدميرال المسلم شمس الدين (تشنج خه)، وقد تناولت الورقة في المبحث الأول العلاقات السياسية بين ظفار العمانية والصين كما وصفتها الوثائق، أما المبحث الثاني فركز على العلاقات الاقتصادية التي قامت بين الجانبين كما وردت في الحوليات الصينية.
زيارة السفينة باليزا
كما قدم الباحث سالم بن أحمد الكثيري ورقة بعنوان 'زيارة السفينة الانجليزية باليزا لإقليم ظفار بين 1833 و1846م'، تناولت بالدراسة طبيعة هذه الزيارات ودوافعها، حيث رصدت الورقة الأبعاد السياسية والاقتصادية والعلمية التي دفعت بريطانيا إلى إرسال السفينة إلى سواحل ظفار خلال تلك الفترة.
وأوضح 'الكثيري' في ورقته أن تلك الزيارات لم تكن مجرد رحلات عابرة، بل شكلت محطة مهمة في التفاعل الإقليمي والدولي في القرن التاسع عشر، حيث أسهمت في تعزيز النفوذ البريطاني ورسم صورة أوسع عن ظفار كموقع استراتيجي وتجاري مهم.
وبيّن 'الكثيري' أن نتائج هذه الزيارات تركت تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على ظفار، سواء من حيث علاقاتها الإقليمية أو حضورها في سياق التنافس الدولي، مؤكدا أن دراسة هذه المرحلة تكشف عن طبيعة الاهتمام الأجنبي بالمنطقة وتضيف بعدا مهما لفهم تاريخها السياسي والاقتصادي.
الطريق إلى كوريا
وقدم الدكتور جين هان جونغ من كوريا الجنوبية ورقة بعنوان 'طريق اللبان من ظفار إلى كوريا.. طريق الحرير البحري'، تناول فيها امتداد تجارة اللبان الظفاري عبر العصور إلى أقصى شرق أوراسيا، وقد خصص المبحث الأول لعرض الشواهد التاريخية والأثرية التي تؤكد حضور اللبان الظفاري في مناطق بعيدة من العالم، بينما ركز في المبحث الثاني على دراسة مكتشفات أثرية في كوريا تعود إلى القرن الثامن الميلادي وتوضح صلة اللبان القادم من ظفار بالممارسات الثقافية والاقتصادية في تلك الفترة.
وبيّن 'جونغ' أن طريق اللبان لم يكن مجرد مسار تجاري محدود، بل شكل حلقة وصل حضارية جمعت بين الشرق والغرب، موضحا أن المكتشفات التي تم العثور عليها في كوريا تدعم الروايات التاريخية حول وصول اللبان الظفاري إلى شرق آسيا، الأمر الذي يبرهن على عالمية هذا المنتج ودوره في بناء شبكات التواصل بين الحضارات.
وأوضح 'جونغ' أن الشواهد المتعددة تؤكد أن اللبان لم يكن سلعة اقتصادية فحسب، بل ارتبط أيضا بالبعد الروحي والثقافي لشعوب مختلفة، وقد حظي بمكانة خاصة في الطقوس الدينية والممارسات الطبية، مما جعله أحد أهم المنتجات التي ساهمت في مد جسور التلاقي الحضاري.
وسلّط 'جونغ' في دراسته الضوء على دور ظفار كمركز أساسي في شبكة طرق الحرير البحرية، وتبرز أهميتها كحلقة وصل حضاري امتد تأثيرها من الشرق الأوسط وصولا إلى شرق آسيا، مشددا على أن هذا الامتداد التاريخي يعكس مكانة ظفار الاستراتيجية في التجارة العالمية منذ قرون طويلة.
ظفار في عهد سلطان بن سيف
واختتم الدكتور موسى بن سالم البراشدي من جامعة السلطان قابوس أعمال الجلسة الأولى بورقة بعنوان 'ظفار في عهد الإمام سلطان بن سيف اليعربي (1059 – 1679م)'، تناول فيها صورة ظفار كما وردت في المصادر الفقهية والأدبية لتلك الحقبة.
وبيّن 'البراشدي' أن المصادر التاريخية تقدم دلائل واضحة على بسط الإمام سلطان بن سيف سيطرته على ظفار، مشيرا إلى أن هذا التوسع لم يكن مجرد بعد جغرافي، بل كان يحمل أبعادا سياسية وعسكرية مهمة أسهمت في تعزيز وحدة الدولة اليعربية وترسيخ حضورها في إقليم ظفار.
موضحا 'أن هذه السيطرة انعكست على الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة، حيث أدى استقرار الأوضاع إلى تنشيط الحركة التجارية وتوسع النشاط الاقتصادي، إضافة إلى بروز دور ظفار كموقع استراتيجي مهم في التواصل مع الأقاليم المجاورة'.
واكد 'البراشدي' أن دراسة هذه المرحلة تكشف عن أهمية ظفار في التاريخ العماني، وتبرز مكانتها في ظل حكم الإمام سلطان بن سيف، لافتا إلى أن رصد هذه الحقبة يساهم في فهم التغيرات السياسية والاجتماعية التي أسهمت في رسم ملامح المنطقة في تلك الفترة.
الجلسة الثانية
وفي الجلسة الثانية ترأس الدكتور أحمد بن علي المعشني الندوة، حيث قدمت الدكتورة بهية بنت سعيد العذوبية ورقة بعنوان 'جزر كوريا موريا في التاريخ العماني.. جيوسياسيا ولوجستيا وعسكريا'، تناولت فيها الأهمية الاستراتيجية لهذه الجزر وما شهدته من تحولات سياسية عبر التاريخ، موضحة في مطلع ورقتها أنها جاءت في محورين أساسيين، الأول يتعلق بالبعد الجيوسياسي، بينما تناول المحور الثاني الجوانب اللوجستية والعسكرية المرتبطة بهذه الجزر.
وبيّنت 'العذوبية' أن جزر كوريا موريا شكلت عبر القرون نقطة ارتكاز مهمة في الخارطة البحرية للمنطقة، مشيرة إلى أن الأهمية الاستراتيجية لها ظهرت بوضوح منذ أن تنازل السيد سعيد بن سلطان عنها عام 1854م وحتى عودتها إلى السيادة العمانية عام 1967م.
وأوضحت 'العذوبية' أن هذه الجزر لم تكن مجرد مواقع جغرافية معزولة، بل لعبت أدوارا مؤثرة في التوازنات الإقليمية والدولية، حيث ارتبطت بالطرق البحرية والتجارية، كما اكتسبت أهمية عسكرية كونها شكلت مواقع دفاعية متقدمة.
وأكدت 'العذوبية' أن استعراض تاريخ جزر كوريا موريا يكشف عن مكانتها في السياق العماني والعالمي، ويعزز فهم دورها في صياغة المواقف الاستراتيجية للدولة العمانية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
التحصينات العسكرية
بعدها قدم الدكتور عبد العزيز بن حميد المحذوري ورقة بعنوان 'التحصينات العسكرية في ظفار في عهد الدولة البوسعيدية'، تناول فيها القلاع والحصون التي تميزت بها ظفار خلال تلك الفترة.
وبيّن 'المحذوري' أن القلاع والحصون لم تكن مجرد مبان حجرية، بل مثلت خطوط دفاع متقدمة أسهمت في تعزيز الاستقرار وحماية الموانئ والطرق التجارية، مؤكدا أن هذه المنشآت حملت بعدا استراتيجيا جعلها جزءا أساسيا من سياسة الدولة البوسعيدية في بسط نفوذها على الإقليم.
وأوضح 'الباحث' أن هذه التحصينات كانت أيضا مراكز للتنظيم الإداري والاجتماعي، حيث لعبت دورا في ضبط العلاقات بين مختلف المكونات القبلية والتجارية، كما كان لها أثر اقتصادي من خلال تحفيز الحركة التجارية وحماية طرق التجارة البحرية والبرية.
وأكد 'المحذوري' أن هذه التحصينات العسكرية تسلط الضوء على أهمية ظفار كمنطقة ذات بعد استراتيجي وحضاري، وتكشف عن تداخل العمارة مع السياسة والاقتصاد في سياق بناء الدولة العمانية الحديثة خلال عهد البوسعيديين.
ظفار في الدراسات الفرنسية
من جانبه قدم الأستاذ الدكتور العروسي بن علي الميزوري من تونس ورقة بعنوان 'محافظة ظفار في الدراسات الفرنسية المعاصرة'، تناول فيها ما كتب عن ظفار في الأبحاث والدراسات الفرنسية. وبيّن 'الميزوري' أن الباحثين الفرنسيين أولوا اهتماما متزايدا بتاريخ عمان خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، مشيرا إلى أن هذا الاهتمام تعزز مع تطور العلاقات الدبلوماسية والثقافية بين عمان وفرنسا.
وأوضح 'الميزوري' أن الدراسات الفرنسية ركزت بشكل خاص على ظفار لما تمثله من قيمة حضارية وتاريخية، حيث تناولت هذه الدراسات مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمنطقة، كما أولت عناية خاصة بدراسة تجارة اللبان الظفاري وصلتها بالطرق التجارية الدولية.
مؤكدا في ختام ورقته أن هذا التراكم البحثي الفرنسي حول ظفار أسهم في إثراء الحوار العلمي والثقافي، وفتح آفاقا أوسع للتفاهم بين الحضارات، لافتا إلى أن الاهتمام المتزايد بتاريخ وظفار وتراثها جعل منها موضوعا بحثيا بارزا في الدوائر الأكاديمية الفرنسية.
ظفار في النصوص
واختتم الدكتور ناصر بن سيف السعدي من جامعة نزوى أعمال الجلسة الثانية بورقة بعنوان 'ظفار في نصوص تراث الشمال العماني.. تمثلات الاقتصاد والسياسة'، تناول فيها حضور ظفار في المصادر الشعرية والتاريخية والفقهية، مبينا أن النصوص الشعرية والتاريخية الواردة في تراث الشمال العماني أبرزت دور ظفار كمكون أصيل في الوعي الجمعي للعمانيين، وأن هذه النصوص ربطت بين ظفار ومكانتها الاقتصادية بوصفها أرض اللبان ومركزا للتجارة، فضلا عن حضورها في السياقات السياسية والعسكرية.
وأوضح 'السعدي' أن النصوص الفقهية والأدبية عكست جانبا آخر من صورة ظفار، حيث تناولت دورها في التوازن الاجتماعي والسياسي بين شمال عمان وجنوبه، وما مثله ذلك من وحدة في النسيج الوطني العماني عبر العصور.